التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الاقتداء بأفعال النبي

          ░4▒ باب الاقْتِدَاءِ بِأفْعَالِ النَّبِيَّ صلعم
          7298- ذكر فيه حَديث ابن عُمَرَ ☻ قَالَ: (اتَّخَذَ النَّبِيُّ صلعم خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فاتَّخَذ النَّاسُ خَوَاتِيْمَ مِنْ ذَهَبٍ)، فَقَالَ ◙: (إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ) فَنَبَذَهُ وَقَالَ: (إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا) فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيْمَهُم.
          الشرح: قال الدَّاودِيُّ في كتابه: خاتَمُ الذَّهب كان مِن لباسِهِ ولباس النَّاس، وكان على الجواز حتَّى نهى عنه، ففيه: أنَّ الأشياء على الإباحة حتى يُنهى عنها وهذا قول العلماء.
          ثانيها: على التَّحريم حتى يُباح، وفيه: حُرْمة لُبس الذَّهب للرجال، وفي الحديث الآخر في الحريرِ والذَّهب ((هُمَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا))، يعني: الكفَّار، ((وَلَنَا فِي الآخِرَةِ))، وقد عُجِّل لأولئك حِسَابهم في الدُّنيا لا يخرجُ أحدٌ منهم ويبقى لهم حَسَناتٌ إلَّا وُفِّيْها، فلا تُقام لهم يَوْم القِيَامَةِ، وأمَّا المؤمنون فمنهم مَن يوفَّى بعض حسناتِهِ في الدُّنيا، ومنهم مَن لم يأخذ مِن أجره شيئًا مثل مُصْعبِ بن عُمَيرٍ، وكان السَّلف يخافون تعجيلَ حسناتهم.
          فَصْلٌ: قد أسلفنا في أوائل الاعتصام خِلافًا في أنَّ أفعاله الواقعة مُوقع القُرب لا على وجه البيان والامتثال، هل هي للوجوب أو النَّدْب أو الوَقْف، وأنَّ القاضي أبا بكرٍ ابن الطَّيِّب قال: بالوقْفِ، واحتجَّ له بأنَّه لَمَّا كانت القُربة الواقعة محتملةً لكونها فرضًا ونَفْلًا، لم يَجُز أن يكون الفعل منه دليلًا على أنَّنا متعبَّدُون بمثلهِ ولا على كونه واجبًا علينا دون كونه نَفلًا؛ لأنَّ فِعلَهُ مقصورٌ عليه دون متعدٍّ إلى غيره، وأمرهُ لنا ونهيه متعدِّيان إلى الغير، والفرْضُ فيهما امتثالهما فافترقا.
          وحُجَّةُ مَن قال بالوجوب حَديث الباب حيث خَلَع فَخَلعوا نِعَالهم، ثمَّ أمرهم عام الحُدَيبية بالتحلُّل فوقفوا، فشَكَى ذلك إلى أمِّ سَلَمَة، فقالت له: اخْرُج إليهم واذْبَح واحْلِق. ففعلَ ذلك، فحَلَقُوا وذَبَحوا اتِّباعًا لفعله، فعلم أنَّ الفِعل آكدُ عندهم مِن القول، وقال لأمِّ سَلَمةَ حين سألتها المرأة عن القُبلة للصَّائم: ((أَلَا أخبرتيها أنِّي أُقبِّل وأنا صائِمٌ)). وقال للرَّجُل مِثْلَ ذلك، فقال له: إنَّك لستَ مِثلنا. فقال: ((إنِّي لأرجو أن أكون أتقاكم لله)).
          فدلَّ هذا أنَّ الأُسوة واقعةٌ إلَّا ما منع منه الدَّليل، ويدلُّ على ذلك لَمَّا نهاهم عن الوِصَال قالوا: إنَّك تُوَاصلُ، قال: (إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى). فلولا أنَّ لهم الاقتداءُ به لقال لهم: وما في مواصلتي ما يُبيح لكم فِعْل ذلك وأفعالي مخصوصَةٌ بي، فلم يقل لهم ذلك، ولكن بيَّن لهم المعنى في اختصاصه بالمواصلة وأنَّهم بخلافِهِ فيه، كذلك خصَّ الله الواهبة أنَّها خالصةٌ له دون أُمَّتِهِ، ولولا ذلك لكانت مباحًا لهم.
          وقال الدَّاودِيُّ: أفعالُهُ على الوجوب حتَّى يقوم دليلٌ على تخصيص شيءٍ منها بندبٍ أو جوازٍ، قال: واختُلِف في هذا: فقال بعضهم: وأدناه الجواز فهو عليه حتَّى يقوم دليلٌ على عُمُومه، وقيل: إنَّما يجب أن يُقتدى به مِن أفعاله ما كان بيانًا لشيءٍ مِن الفرائض، وقيل القول منه آكدُ مِن الفعل، وذلك كلُّه واحدٌ لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الآية [النور:63].