التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع

          ░5▒ باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَاَزُعِ فِي العِلْمِ، والغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَالْبِدَعِ
          لقَوْلِهِ ╡: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171]
          ذكر فيه سبعةُ أحاديثَ سَلَفَت:
          7299- حديث أبي هُرَيرةَ ☺ في الوِصَال.
          7300- وحديث عليٍّ ☺: (مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ نَقْرَؤهُ إِلَّا كِتَابُ اللهِ وَمَا فِي هذِه الصَّحِيفَةِ).
          7301- وحديث عائِشَةَ ♦ الله عنها: (فَواللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِالله وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً).
          7302- وحديث ابن أبي مُلَيكةَ: (كَادَ الخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ...) الحديث.
          7303- وحديث عائِشَةَ ♦: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ). الحديثَ بطوله.
          7304- وحديث سَهْلِ بن سَعْدٍ في اللِّعان.
          7305- وحديث مالكِ بن أوسٍ: أنَّ العبَّاس وعليًّا جاءا إلى عُمَرَ ☺ يطلبان ميراثهما مِن رسول الله صلعم، وَتَنَازُعْهُما مع عُمَر ☺... الحديث بطوله. وفيه: (لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ).
          الشرح: الغُلُوُّ: مجاوزة الحدِّ، وهذا يدلُّ على أنَّ البحث عن أسباب الربوبيَّة مِن نَزَغَات الشَّيطان، وممَّا يؤدِّي إلى الخروج عن الحقِّ؛ لأنَّ هؤلاء غَلَوا في الفكرة حتَّى آلَ بهم الأمر أن جعلوا آلهةً ثلاثةً، وأمَّا الذين غَلَوا في الصِّيام فهو اتِّباعهم للوِصَال بعد أنْ نهاهم رسول الله صلعم، فعاقبَهم بأنْ زادهم ما تعمَّقُوا به.
          وقول عليٍّ ☺ لَمَّا خطبَ على منبرٍ مٍن آجُرٍّ: (وَاللهِ مَا عِنْدَنَا إِلَّا كِتَابَ اللهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ). فإنَّه أراد به تبكيتَ مَن تنطَّع، وجاء بغير ما في كِتاب الله وغير ما في سُنَّة رسوله فهو مذمومٌ.
          وحديث القُبلة للصَّائم التي تنزَّه قوم عنها ورخَّصَ فيها الشارع فذمَّهم بالتعمُّق والمخالفة.
          وقِصَّة وفد بني تميمٍ لِمَا آلَ إلى التنازُع مِن الصِّدِّيق والفاروق إلى المحاسبة في التفاضُل بين ابن حابسٍ وعُيَينةَ بن حِصْنٍ، ورمى بعضهم بعضًا بالمناوأة والقَصْد إلى المخالفة والفُرْقة. كذلك ينبغي أن تذمُّ كلُّ حالةٍ تُخرج صاحبها إلى افتراق / الكلِمة واستشعارِ العَدَاوةِ.
          وقوله: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ذمَّ عائِشَة _♦_ لتعمُّقها في المعاني التي خشيتها مِن مقامِ أبيها في مقامِ رسول الله صلعم ممَّا رُوي عنها أنَّها قَصَدته بذلك، وقد سلف في الصَّلاة وذمَّه حَفْصةَ أيضًا [خ¦664] [خ¦679]؛ لأنَّها أدخلتها في المفاوضة لرسول الله صلعم.
          وكذلك كراهيته ◙ لمسائل اللِّعان وعيبِهِ لها في نصِّ الباب، وأنَّه خَشِيَ أن يَنزل مِن القرآن ما يكون تضييقًا فنزل فيه اللِّعان وهو وعيدٌ عظيمٌ وسببٌ إلى عذاب الآخرة لمن أراد تعالى إنفاذَهُ عليه.
          وحديث العبَّاس وعليٍّ ☻ يؤولُ إلى ما ذمَّ مِن تنازُعِهما إلى انقطاع الرَّحِم التي بينهما بالمخاصمة في هذا المال الموقوف لا سيَّما بعد أن قصَّ عليهما عُمَر ☺ حَديث رسول الله صلعم فلم يَنْهَهما عن طلبِ هذا الوَقْف لِيَلِيَاه كما كان يَلِيهِ الخليفة مِن توزيعهِ وقِسمته حيث يحبُ وانفرادهما بالحكم فيه، وقد سلف معناه واضحًا في آخر الجهاد، فرض الخُمُس [خ¦3093].
          فَصْلٌ: معنى: (يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي) قيل حقيقةً، والأصحُّ يُعطى قُوتهما فيحصلُ له الرِّيُّ والشَّبع ويكون بمنزلة مَن تناولهما.
          والآجُرُّ في حَديث عليٍّ _ممدودٌ مشدَّدُ الرَّاء_ ما يُبنى به فارسيٌّ معرَّبٌ، ويُقال: آجُورٌ على وزن فَاعُول.
          وقول عليٍّ ☺: (مَا عِنْدَنَا...) إلى آخره، قاله لأنَّ الرَّوافض تزعُمُ أنَّه ◙ أسرَّ إليه، وأنَّهم كتبوا كتابًا يُقال له: الجَفْر عِلْمُ ما يكون، وأنَّه خصَّهم بذلك دون النَّاس فأكذبهم عليُّ ☺، وبعض الرُّواة تزيدُ فيما ذكر في الصَّحيفة على بعضٍ، ويقول كلُّ واحدٍ ما حَفِظ.
          وقوله: (المَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى كَذَا) جاء في حَديثٍ آخرَ: ((إلى ثورٍ))، والمراد ما بين لَابَتَيهَا كما صرَّح به في موضعٍ آخرَ.
          والصَّرْف: الاكتسابُ أو الحيلة مِن قولهم: يتصرَّف في الأمور. أي: يحتالُ فيها، ومنه قوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا} [الفرقان:19]، أو التَّوبة أو النَّافلة أو الفَرِيضة أو الوزْن، أقوالٌ.
          والعَدْلُ: الفِدْية مِن قوله تعالى: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:48] أو الكَيْل أو الفَرِيضة أو النَّافلة، وقد سلف ذلك [خ¦1870].
          و(أَخْفَرَ): نقضُ العَهْد؛ يُقال: أَخْفَرتُ الرَّجُل نَقَضْتُ عَهْدَهُ وأَخْفَرْتُهُ أيضًا جَعَلتُ معه خَفِيرًا.
          فَصْلٌ: قوله: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ) قال الدَّاودِيُّ: التنزُّه عمَّا ترخَّص به الشارع مِن أعظم الذُّنوب؛ لأنَّ هذا يرى نفسَه أتقى مِن ذلك مِن رسوله وهذا إلحادٌ.
          وقوله: (أَعْلَمُكُمْ بِاللهِ) احتجَّ به مَن قال: إنَّ العِلْم إذا وقعَ مِن طُرقٍ كان مَن وقعَ له أعلمَ ممَّن وقَعَ له مِن طريقٍ واحدٍ، وهذا أصلٌ اختلفَ فيه أهلُ الأُصول.
          فَصْلٌ: قول ابن أبي مُلَيكة: (كَادَ الخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا...) الحديثَ، هو مُرْسلٌ، وإنَّما ذكر ابن الزُّبير لفظةً منه فلم يتَّصل مِن الحديث غيرها: (فَنَزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:2]).
          قوله: (قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَكَانَ عُمَرُ بَعْدُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، إِذَا حَدَّثَ النَّبِيَّ صلعم بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ).
          فيه: أنَّ الجدَّ للأمِّ يُسمَّى أبًا؛ لأنَّ أبا بكْرٍ كان جدَّ ابن الزبير لأمِّه، وقد قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22]. والجدُّ للأمِّ داخلٌ في ذلك.
          وقوله: (كَأَخِي السِّرَارِ) قال الخطَّابيُّ: سمعتُ أبا عَمْرٍو يذكرُ عن أبي العبَّاس: كالسِّرار، وأخي صِلةٌ، قال: وقد يكون بمعنى صاحبِ السِّرار. وقيل: كالمناجي سِرًّا. ورُوي عن أبي بكرٍ مثل فعل عُمَرَ _☻_ لم يكن بعد ذلك مِن كلامه لرسول الله صلعم حتَّى يستفهمَهُ.
          فَصْلٌ: قال الدَّاودِيُّ: وقوله: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ). وقال: (إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ) فيه دليلٌ على أنَّ أوامره على الوجوب وأنَّ في مراجعته بعض المكروه، واحتُجَّ بهذا الحديث على الثَّوريِّ القائل: يؤمُّ القوم أقرؤهم. وأنَّ أبا بكرٍ لَمَّا كان أعلمَ الصَّحابة وأفضلَهم قدَّمه الشَّارع وإن كان فيهم مَن هو أقرأُ منه. قال عُمَر ☺: أُبيٌّ أقرؤنا.
          وقوله: (لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ) فيه: أنَّ البكاء مِن خشية الله لا يَقطعُ الصَّلاة. وحملَهُ جمهور أصحابنا على ما إذا لم يَبِنْ منه حرفان، وفيه دليلٌ على جواز القول بالرأي، ولذلك أقرَّها ◙ على اعتراضها عليه بالرأي بعد نصِّه على الحكم، وقول عائشة لحفصة هابته مِن المخاطبة فعدلت إلى التي هي غيرها لتكرِّر عليه القول فيُصغى إليه.
          وقوله: (صَوَاحِبُ يُوسُفَ) قيل: يريد جِنس النِّساء، وقيل: امرأة العزيز، وأتى بلفظ الجمع كما يُقال: فلانٌ يميل إلى النِّساء، ولعلَّه إنَّما مالَ إلى واحدةٍ منهنَّ، فذكَّرهما بفساد رأي مَن تقدَّم مِن جنسهنَّ فإنهنَّ دَعَون إلى غير صوابٍ مِثلكما.
          فَصْلٌ: والأحمرُ في حَديث سَهْلٍ: الشَّديد الحُمْرة. والوَحَرَةل_بالتحريك_ دُوَيبةٌ حَمْرَاءُ تَلْزَقُ بالأرض كالوَزَغةِ تَقَع في الطعام فتفسده، وقيل: كالعَضَاءِةِ إذا دَبَّت على الأرض، وَحَرَ أي فَسَد، وقيل: هي دُوَيِّبَّةٌ فوق العَرْسَة حَمْرَاءُ. والأَسْحَمُ: الأسود، والأَلية بفتح الهمزة. وأتى هاهنا بهذا الحديث؛ لأنَّ الحُكم يشتمل على حدٍّ إلى الأبد كما نبَّه عليه الدَّاودِيُّ.
          فَصْلٌ: ودخول عُثْمانَ ومَن معه ♥ قبل عليٍّ والعبَّاس ☻ ليكلِّما عُمَر ☺ في القضاء بينهما.
          و(الرَّهْطُ): ما دون العشرة ليس فيهم امرأةٌ.
          وقول العبَّاس: (اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ الظَّالِمِ) أي في هذا الأمر على ما تأوَّلَ، ليس أنَّه يظلِمُ النَّاس.
          وقوله: (فَاسْتَبَّا) قال الدَّاودِيُّ: يعني أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يدَّعي أنَّه ظُلم في هذا الأمر ليس أنَّ عليًّا / يسبُّ العبَّاس بغير ذلك لأنَّه كأبيه، ولا أنَّ العبَّاس يسبُّ عليًّا لفضلهِ وسابقتِهِ.
          وقوله لعليٍّ والعبَّاس: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ ذَلِكَ؟ قَالاَ: نَعَمْ)، ثمَّ قال في سياق حديثه: (جِئْتَنِي تَسْأَلُنِيْ مِيْرَاثَكَ) إلى آخره، فإنَّما قالا ذلك أنَّه ◙ قال: (لاَ نُورَثُ)، لم يذكرا أو أحدُهما مَن قَصَد فرجعا إلى قوله، قاله الدَّاودِيُّ، قال: وقوله: (وَأَنْتُمَا تَقُوْلَانِ إِنَّ أَبَا بَكْرِ فِيْهَا كَذَا) يعني منعَهُ الميراث، وهما لا يقولان ذلك إلَّا قبلَ عِلْمِهما أو في حالِ تسابِّهما أنَّه ◙ قال: (لاَ نُورَثُ).
          خاتِمَةٌ: وفي قول عليٍّ ☺: (مَا عِنْدَنَا إِلَّا كِتَابَ الله وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ) تبكيتُ مَن تنطَّعَ وجاء بغير ما في الكتاب والسُّنَّة مِن قياسٍ فاسدٍ لا أصلَ له مِن كتاب الله ولا سنَّةٍ، فإن كان له أصلٌ فيهما أو إجماعٌ فهو محمودٌ، وهو الاجتهاد والاستنباط كما سنعود إليه بعدُ [خ¦7316].