شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فضل الفقر

          ░16▒ بَابُ فَضْلِ الفَقْرِ.
          فيهِ: سَهْلٌ: (مَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبيِّ صلعم فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ هَذَا، وَاللهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ النَّبيُّ صلعم ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صلعم: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلعم: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا). [خ¦6447]
          وفيهِ: خَبَّابٌ، قَالَ: (هَاجَرْنَا مَعَ النَّبيِّ صلعم نُرِيْدُ وَجْهَ اللهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا(1) رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَتْ(2) رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبيُّ صلعم أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَنَجْعَلَ(3) عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الإذْخِرِ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا). [خ¦6448]
          وفيهِ: عِمْرَانُ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (اطَّلَعْتُ في الجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ في النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ). [خ¦6449]
          وفيهِ: أَنَسٌ: (لَمْ يَأْكُلِ النَّبيُّ صلعم عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ، وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ). [خ¦6450]
          وفيهِ: عَائِشَةُ قَالَتْ: (لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُوْلُ اللهِ(4) صلعم وَمَا فِي(5) رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرُ شَعِيْرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ). [خ¦6451]
          قال المؤلِّفُ: في ظاهر هذه الأحاديث فضل الفقر، كما ترجم البخاريُّ ☼، وقد طال تنازع النَّاس في هذه المسألة، فذهب قومٌ إلى تفضيل الفقر، وذهب آخرون إلى تفضيل الغنى، واحتجَّ مَن فضَّل الفقر بهذه الآثار وبغيرِها، فمِنها أنَّه صلعم كان يقول في دعائِه: ((اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِيْنًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِيْنًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ المَسَاكِيْنِ)) مِن حديث ثَابِتِ بنِ مُحَمَّدٍ العَابِدِ العَوْفِيِّ عن الحارثِ بنِ النُّعْمَانِ اللَّيْثِيِّ عن أَنَسِ بنِ مالكٍ عن النَّبيِّ صلعم ذكرَه التِّرْمِذِيُّ، ومِنها أنَّه قال صلعم: ((اللَّهُمَّ مَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَ مَا جِئْتُ بِهِ، فَأَقْلِلْ لَهُ مِنَ(6) المَالِ والوَلَدِ)). وقولُه صلعم: ((إِنَّ الفُقَرَاءَ يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ وَأَصْحَابُ الجَدِّ مَحْبُوْسُوْنَ)) روى التِّرْمِذِيُّ عن محمودِ بنِ غَيْلَانَ عن قَبِيْصَةَ عن سُفْيَانَ عن مُحَمَّدِ بنِ عَمْرٍو عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هريرةَ عن النَّبيِّ صلعم قَالَ: ((يَدْخُلُ الفُقَرَاءُ الجَنَّةَ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمَائَةِ سَنَةٍ، نِصْفُ يَوْمٍ)) قال التِّرْمِذِيُّ: وهذا حديثٌ صحيحٌ.
          واحتجَّ مَن فضَّل الغنى بقولِه صلعم: ((إِنَّ المُكْثِرِيْنَ هُمُ الأَقَلُّوْنَ، إِلَّا مَنْ قَالَ بِالمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا)) وبقولِهِ ◙: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، أَحَدُهُمَا: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ)) الحديثَ(7). وبقولِه صلعم لسَعْدٍ: (إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُوْنَ النَّاسَ).
          وقال لأبي لُبَابَةَ حينَ قَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إِنَّ مِنْ(8) تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِه: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَكَ)) وقال في مُعَاوِيَةَ: ((إِنَّهُ صُعْلُوْكٌ لَا مَالَ لَهُ)) ولم يكن صلعم ليذمَّ حالةً فيها الفضل.
          وأحسن ما رأيت في هذه المسألة ما قالَه أحمدُ بنُ نَصْرٍ الدَّاوُدِيُّ قال: الفقر والغنى محنتان مِن الله تعالى وبليَّتان يبلو بهما خيار(9) عبادِه ليُبْدِيَ صبر الصَّابرين وشكر الشَّاكرين وطغيان البطرين، وإنَّما أشكل ذلك على غير الرَّاسخين، فوضع قومٌ الكتب في تفضيل الغنى على الفقر، ووضع آخرون في تفضيل(10) الفقر، وأغفلوا الوجه الَّذي يجب الحضُّ عليه والنَّدب إليه، وأرجو لمَن صحَّت نيَّتُه وخلصت لله طويَّتُه، وكانت لوجهِه مقالتُه أن يُجازيَه الله على نيِّتِه ويُعَلِّمَه، قال الله تعالى(11): {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِيْنَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الكهف:7]، وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً}[الأنبياء:35]، وقال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءِ عَرِيْضٍ}[فصِّلت:51]، وقال تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوْعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوْعًا} [المعارج:19-21]، وقال تعالى: / {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُوْلُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُوْلُ رَبِّي أَهَانَنِ(12)} [الفجر:15-16]، وقال ╡: {وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بَقَدَرٍ مَا يَشَاءُ(13)}[الشُّورى:27]، وقال تبارك اسمُه: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُوْنَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ(14)}[الزُّخرف:33]الآيةَ، وقال جلَّ وعزَّ: {كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[العلق:6-7]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيْدٌ}[العاديات:8]، يعني لحبِّ المال، وقال صلعم: ((مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ(15) أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُفْتَحَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ)) الحديثَ.
          وكانَ صلعم يستعيذ مِن فتنة الفقر وفتنة الغنى، فدلَّ هذا كلُّه على(16) أنَّ ما فوق الكفاف محنةٌ لا يسلم منها إلَّا مَن عصمَه الله، وقد قال ◙: ((مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى)) وقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ لمَّا أُتي بأموال كِسْرَى: مَا فَتَحَ اللهُ هَذَا عَلَى قَوْمٍ إِلَّا سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَقَطَعُوا أَرْحَامَهُمْ. وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نَسْتَطِيْعُ إِلَّا أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَ لَنَا، اللَّهُمَّ إِنَّكَ مَنَعْتَ هَذَا رَسُوْلَكَ إِكْرَامًا مِنْكَ لَهُ، وَفَتَحْتَهُ عَلَيَّ لِتَبْتَلِيَنِي بِهِ، اللَّهُمَّ سَلِّطْنِي عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقَّ وَاعْصِمْنِي مِنْ فِتْنَتِهِ. فهذا كلُّه يدلُّ على فضل الكفاف لا فضل الفقر كما خُيِّلَ لهم، بل الفقر والغنى بليَّتان كان النَّبيُّ صلعم يستعيذ مِن فتنتِهما، ويدلُّ على هذا قولُه تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُوْلَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوْمًا مَحْسُوْرًا}[الإسراء:29]، وقال تعالى: {وَالَّذِيْنَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان:67]، وقال ╡: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا}[النِّساء:5]إلى قولِه تبارك وتعالى(17) في وليِّ اليتيم: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيْرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوْفِ}[النِّساء:6]، وقال ╡: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ}[النِّساء:9]، وقال ◙ لأَبي لُبَابَةَ: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ)) وقال لسَعْدٍ: ((إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُوْنَ النَّاسَ)) وهذا مِن الغنى الَّذي لا يُطغي، ولو كان كلُّ ما زاد كان أفضل لنهاه النَّبيُّ صلعم أن يوصي بشيءٍ، ولقصرت أيدي النَّاس عن الصَّدقات وعن الإنفاق في سبيل الله، وقال لعَمْرِو بنِ العَاصِ: ((هَلْ لَكَ أَنْ أَبْعَثَكَ فِي جَيْشٍ يُسَلِّمُكَ اللهُ وَيُغَنِّمُكَ، وَأَرْغَبُ لَكَ رَغْبَةً مِنَ المَالِ؟ فَقَالَ: مَا للمَالِ كَانَتْ هِجْرَتِي، إِنَّمَا كَانَتْ للهِ وَلِرَسُوْلِهِ. فَقَالَ: نِعْمَ المَالُ الصَّالِحُ للرَّجُلِ الصَّالِحِ)).
          ولم يكن صلعم ليحضَّ أحدًا على ما يُنْقِصُ حظَّه عند الله ╡، فلا يجوز أن يُقال إنَّ(18) إحدى هاتين الخصلتين أفضل مِن الأخرى لأنَّهما محنتان، وكأنَّ قائل هذا يقول: إنَّ ذهاب يد الإنسان أفضل عند الله مِن ذهاب رجلِه، وإنَّ ذهاب سمعِه أفضل مِن ذهاب بصرِه؛ فليس هاهنا موضع للفضل، وإنَّما هي محنٌ يبلو الله بها عبادَه ليَعلم الصَّابرين والشَّاكرين(19) مِن غيرِهما، ولم يأتِ في الحديث فيما علمنا أنَّ النَّبيَّ صلعم كان يدعو على نفسِه بالفقر، ولا يدعو بذلك على أحدٍ يُرِيدُ به الخير، بل كان يدعو بالكفاف ويستعيذ بالله مِن شرِّ فتنة الفقر وفتنة الغنى، ولم يكن يدعو بالغنى إلَّا بشريطةٍ يذكرُها في دعائِه.
          فأمَّا ما رُوِيَ عنه أنَّه كان يقول: ((اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِيْنًا وَأَمِتْنِي مِسْكِيْنًا، وَاحْشُرْنِيِ فِي زُمْرَةِ المَسَاكِيْنِ)) فإن ثبت في النَّقل فمعناه ألَّا يُجاوز به الكفاف، أو يُرِيدُ به الاستكانة إلى الله ╡، ويدلُّ على صحَّة هذا التَّأويل أنَّه ترك أموال بني النَّضير وسهمَه مِن فَدَكَ وخَيْبَرَ، فغير جائزٍ أن يُظَنَّ به أن يدعو إلى الله ألَّا يكون بيدِه شيءٌ وهو يقدر على إزالتِه مِن يدِه بإنفاقِه. وما رُوِيَ عنه أنَّه قال: ((اللَّهُمَّ مَنْ آمَنْ بِي وَصَدَّقَ مَا جِئْتُ بِهِ، فَأَقْلِلْ لَهُ مِنَ المَالِ وَالوَلَدِ)) فلا يصحُّ في النَّقل ولا في الاعتبار، ولو كان إنَّما دعا بذلك في المال وحدَه لكان محتملًا أن يدعو لهم بالكفاف، وأمَّا دعاؤُه في قلَّة(20) الولد فكيف يدعو أن يقلَّ المسلمون، وما يدفعُه العِيَان مدفوعٌ عنه ◙، وأحاديثُه لا تتناقض.
          كيف يذمُّ مُعَاوِيَةَ، ويأمر أبا لُبَابَةَ وسَعْدًا أن يُبْقِيا ما ذكر مِن المال ويقول: إنَّه خيرٌ ثمَّ يُخالف ذلك، وقد ثبت أنَّه دعا لأَنَسِ بنِ مالكٍ وقَالَ: ((اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيْمَا أَعْطَيْتَهُ)) قال أَنَسٌ: فلقد أحصت ابنتي أنِّي قدَّمت مِن ولد صُلبي مقدم الحجَّاج البصرة مائةً وبضعةً(21) وعشرين نَسَمَةً بدعوة النَّبيِّ(22) صلعم، وعاش بعد ذلك سنين ووُلِد له، فلم يدعُ له بكثرة المال إلَّا وقد قرن ذلك بقولِه: ((وَبَارِكْ لَهُ فِيْمَا أَعْطَيْتَهُ)).
          فإن قيل: فأيُّ الرَّجلين أفضل: المبتلى بالفقر، أو المبتلى بالغنى إذا صلحت حال كلُّ واحدٍ منهما؟
          قيل: السُّؤال عن هذا لا يستقيم؛ إذ قد يكون لهذا أعمالٌ سوى تلك المحنة يفضل بها صاحبَه، وللآخر(23) كذلك، وقد يكون هذا الَّذي صلح حالُه على الفقر لا يصلح حالُه على الغنى، ويصلح حال الآخر على الفقر(24) والغنى.
          فإن قيل: فإنْ كان كلُّ واحدٍ منهما يصلح حالُه في الأمرين، وهما في غير ذلك مِن الأعمال متساويان / قد أدَّى الفقير ما يجب عليه في فقره مِن الصَّبر والعفاف والرِّضا، وأدَّى الغني ما يجب عليه مِن الإنفاق والبذل والشُّكر والتَّواضع، فأيُّ الرَّجلين أفضل؟ قيل: علم هذا عند الله تعالى. ٍ
          وأمَّا قولُه: (وَأَصْحَابُ الجَدِّ مَحْبُوْسُوْنَ) فإنَّما يحبس لهذا أهل التَّفاخر والتَّكاثر، وأمَّا(25) مَن أدَّى حقَّ الله في مالِه، ولم يُرِدْ به التَّفاخر وأرصد باقيَه لحاجتِه إليه، فليس أولئك بأولى منه في السَّبْق إلى شيءٍ، ويدلُّ على هذا(26) قولُه ◙: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ)) فبيَّن النَّبيُّ صلعم أنَّه لا شيء أرفع مِن هاتين الحالتين، وهو المبيِّن عن الله ╡ معنى ما أراد، ولو كان مَن(27) هذه حالُه مسبوقًا في الأخرى لما حضَّ النَّبيُّ صلعم على أن يتنافس في عملِه، ولحضَّ أبا لُبَابَةَ على الحالة الَّتي يسبق بها إلى الجنَّة، ألا ترى قولَه صلعم في حديث: ((الخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فالَّذِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الإِسْلَامِ)) فهذا مِن المحبوسين للحساب، والأوَّلان فهو كفافهما، غير أنَّ آفات الغنى أكثر، والنَّاجون مِن أهل الغنى أقلُّ، إذ لا يكاد يسلم مِن آفاتِه إلَّا مَن عصمَه الله فلذلك عظمت منزلة المعصوم فيه لأنَّ الشَّيطان يُسَوِّلُ فيه إمَّا في الأخذ بغير حقَّه، أو في الوضع في غير حقِّه، أو في منعِه مِن حقِّه، أو في التَّجبُّر والطُّغيان مِن أجلِه، أو في قلَّة الشُّكر عليه أو في المنافسة فيه إلى ما لا يبلغ صفتَه.
          قال المُهَلَّبُ: وليس في قولِه صلعم: ((يَدْخُلُ فُقَرَاءَ أُمَّتِي الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِخَمْسِمَائَةِ عَامٍ)) تفضيل للفقر لأنَّ تقديم دُخُول الجنَّة لا تستحقُّ به الفضيلة، ألا ترى أنَّ النَّبيَّ صلعم أفضل البشر ولا يتقدَّم بالدُخُول في الجنَّة حتَّى يشفع في أمَّتِه، وكذا(28) صالح المؤمنين يشفعون في قومٍ دونهم في الدَّرجة، وإنَّما ينظر يوم القيامة بين النَّاس فيقدَّم الأقلُّ حسابًا فالأقلُّ، فلذلك قدَّم الفقراء، لأنَّه لا عُلْقَة(29) عليهم في حساب(30) الأموال، فيدخلون الجنَّة قبل الأغنياء، ثمَّ يحاسب أصحاب الأموال فيدخلون(31) الجنَّة، وينالون فيها مِن الدَّرجات ما قد لا يبلغُه الفقراء، وكذلك ليس في قولِه صلعم: ((اطَّلَعْتُ فِي الجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الفُقَرَاءَ)) ما يُوجب فضل الفقراء، وإنَّما معناه أنَّ الفقراء في الدُّنيا أكثر مِن الأغنياء، فأخبر عن ذلك كما نقول أكثر أهل الدُّنيا الفقراء، لا(32) من جهة التَّفضيل، وإنَّما هو إخبارٌ عن الحال، وليس الفقر أدخلَهم الجنَّة، إنَّما أدخلَهم الله الجنَّة بصلاحِهم مع الفقر، أرأيت الفقير إذا لم يكن صالحًا فلا فضل له في الفقر، وأمَّا حديث سَهْلٍ فلا يخلو أن يكون فضل الرَّجل الفقير على الغنيِّ مِن أجل فقرِه أو مِن أجل فضلِه، فإن كان مِن أجل فضلِه فلا حجَّة فيه لمَن فَضَّلَ الفقر، وإن كان مِن أجل فقرِه فكان ينبغي أن يشترط في ملء الأرض مثله لا فقير فيهم.
          ولا دليل في الحديث يدلُّ على تفضيلِه عليه مع جهة فقره لأنَّا نجد الفقير إذا لم يكن صالحًا فكلُّ غنيٍّ صالحٍ خيرٌ منه، وفي حديث خَبَّابٍ أنَّ هجرتَهم لم تكن لدنيا يُصيبونها، ولا نعمة يستعجلونَها، وإنَّما كانت لله ╡ ليثيبَهم عليها في الآخرة بالجنَّة والنَّجاة مِن النَّار، فمَن قُتِلَ منهم قبل أن يفتح الله عليهم البلاد قالوا: مرَّ ولم يأخذ مِن أجره شيئًا في الدُّنيا، وكان أجرُه في الآخرة موفَّرًا له وكان الَّذي بقي منهم حتَّى فتح الله عليهم الدُّنيا، ونالوا مِن الطَّيِّبات خَشَوا أن يكون عجَّل لهم أجر طاعتِهم وهجرتِهم في الدُّنيا بما نالوا منها مِن النَّعيم؛ إذ كانوا على نعيم الآخرة أحرص.
          وتركُه ◙ الأكل على الخِوَانِ وأكلِ المُرَقَّقِ، فإنَّما فعل ذلك كأنَّه رفع الطَّيِّبات للحياة الدَّائمة في الآخرة، ولم يرضَ أن يستعجل في الدُّنيا الفانية شيئًا منها أخذًا منه بأفضل الدَّارين، وكان قد خيَّره الله تعالى بين أن يكون نبيًّا عبدًا أو نبيًّا مَلِكًا، فاختار عبدًا، فلزمَه أن يفي لله بما اختارَه، والمال إنَّما يرغب فيه مع مقارنة الدِّين ليستعان به على الآخرة، والنَّبيُّ صلعم قد غُفِرَ له ما تقدَّم مِن ذنبِه وما تأخَّر، فلم يحتج إلى المال مِن هذه الوجوه(33)، وكان قد ضمن الله تعالى له رزقَه بقولِه ╡: {نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}[طه:132].
          وقول عَائِشَةَ ♦: (لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلعم وَمَا فِي بَيْتِي شَيْءٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَطْرُ شَعِيْرٍ) هو في معنى حديث أَنَسٍ الَّذي قبلَه مِن الأخذ بالاقتصاد وبما يسدُّ الجوعة، وفيه بركة النَّبيِّ صلعم. وفيه أنَّ الطَّعام المكيل يكون فناؤُه معلومًا للعلم بكيلِه وأنَّ الطَّعام(34) غير المكيل فيه البركة لأنَّه غير معلومٍ مقدارُه.


[1] قوله: ((بها)) ليس في (ت) و(ص).
[2] في (ص): ((بدا)).
[3] في (ت) و(ص): ((وأن نجعل)) وبعدها في (ص): ((شيء)).
[4] كذا في (ز) وكتب فوقها: ((النَّبي))، وفي (ت) و(ص): ((النَّبي)).
[5] قوله: ((في)) ليس في (ت).
[6] في (ت): ((في)).
[7] قوله: ((الحديث)) ليس في (ت).
[8] قوله: ((من)) ليس في (ص).
[9] في (ت) و (ص): ((أخيار)).
[10] قوله: ((في تفضيل)) ليس في (ت) و(ص).
[11] في (ت) و(ص): ((قال تعالى)).
[12] قوله: (({وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ})) ليس في (ت) و(ص).
[13] قوله: (({فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ})) ليس في (ت) و(ص)، وفيهما: ((الآية)).
[14] قوله: (({سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ})) ليس في (ت) و(ص).
[15] في (ص): ((ولكني)).
[16] قوله: ((على)) ليس في (ت) و(ص).
[17] قوله: ((إلى قوله تبارك وتعالى)) ليس في (ت) و(ص)، وفيهما: ((وقال)).
[18] قوله: ((إن)) ليس في (ص).
[19] في (ت): ((الصَّابر والشَّاكر)).
[20] في (ت) و(ص): ((بقلَّة)).
[21] قوله: ((وبضعةً)) ليس في (ت).
[22] في (ص): ((رسول الله)).
[23] في (ص): ((فالآخر)).
[24] قوله: ((لا يصلح حاله...الآخر على الفقر)) ليس في (ت) و(ص).
[25] في (ت): ((وإنَّما)).
[26] قوله: ((هذا)) ليس في (ت).
[27] قوله: ((من)) ليس في (ت).
[28] في (ت) و(ص): ((وكذلك)).
[29] في (ت) و(ص): ((لأنَّهم لا عقلة)).
[30] في (ت) و(ص): ((وحساب)).
[31] في (ت) و(ص): ((ويدخلون)).
[32] في (ز): ((إلَّا)) والمثبت من (ت) و(ص).
[33] تحتمل في (ص): ((الوجه)).
[34] قوله: ((المكيل يكون فناؤه معلومًا للعلم بكيله وأنَّ الطَّعام)) ليس في (ت) و(ص).