شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الخوف من الله

          ░25▒ بَابُ: الخَوْفِ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
          فيهِ: حُذَيْفَةَ وَأَبُو سَعِيْدٍ، عَنِ النَّبيِّ صلعم قَالَ: (كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُسِيءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ، فَقَالَ لأهْلِهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ، فَخُذُوْنِي، فَذَرُّوْنِي فِي البَحْرِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، فَفَعَلُوا بِهِ، فَجَمَعَهُ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي صَنَعْتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ، فَغَفَرَ لَهُ). [خ¦6480]
          وَقَالَ أَبُو سَعِيْدٍ في حديثِهِ: (إِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا، فَسَّرَهَا قَتَادَةُ، لَمْ يَدَّخِرْ، وَإِنْ يَقْدَمْ عَلَى اللهِ يُعَذِّبْهُ، فَانْظُرُوا، فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا، فَاسْحَقُوْنِي، أَوْ قَالَ: فَاسْهَكُوْنِي، ثُمَّ إِذَا كَانَ رِيْحٌ عَاصِفٌ، فَأَذْرُونِي فِيْهَا، فَأَخَذَ(1) مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّي، فَفَعَلُوا، قَالَ(2) اللهُ: كُنْ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ، قَالَ اللهُ: أَيْ عَبْدِي، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ، أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ، فَمَا تَلافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ). [خ¦6481]
          قال المؤلِّفُ: ذكر البخاريُّ(3) في بَابِ ما ذُكِرَ عَنْ بني إِسْرَائِيْلَ، قَالَ حُذَيْفَةُ: (وَكَانَ نَبَّاشًا) [خ¦3479].
          قال المؤلِّفُ: فغفر الله له بشدَّة مخافتِه، فأقرب(4) الوسائل إلى الله تعالى خوفُه وألَّا يأمن المؤمن مكرَه، قال خَالِدُ الرَّبَعِيُّ: وجدت فَاتِحَةَ زَبُورِ داودَ: رأسُ الحكمةِ خشيةُ الرَّبِّ. وكان السَّلف الصَّالح قد أُشرب الخوف مِن الله ╡ قلوبَهم واستقلَّوا أعمالهم ويخافون ألَّا تُقبَل منهم مع مجانبتِهم الكبائر، ورُوِيَ(5) عن عَائِشَةَ: أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبيَّ صلعم عن قولِهِ ╡: {والَّذِيْنَ يُؤْتُوْنَ مَا آتَوا وَقُلُوْبُهُمْ وَجِلَةٌ}[المؤمنون:60]، قال: ((يَا ابْنَةَ الصِّدِّيْقِ، هُمُ الَّذين يَصُومُونَ ويُصَلُّونَ(6) ويَتَصَدَّقُونَ، ويَفْرَقُونَ(7) ألَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ)).
          وقال مُطَرِّفُ بنُ عبدِ اللهِ: كاد خوف النَّار يحول بيني وبين أن أسأل الله الجنَّة. وقال بكرٌ لمَّا نظر إلى أهل عرفات: ظننت أنَّه(8) قد غُفِرَ لهم لولا أنِّي كنت معهم.
          فهذه صفة العلماء بالله الخائفين له، يعدُّون أنفسهم مِن الظَّالمين الخاطئين وهم أنزاهٌ بُرَآء، أو مع(9) المقصِّرين وهم أكياسٌ مجتهدون لا يَدِلُّون عليه بالأعمال فهم مروَّعون خاشعون وَجِلُون معترفون(10)، وقال(11) عبدُ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ: وَدِدْتُ أنِّي انفلقتُ(12) عن روثةٍ لا أنتسبُ إلَّا إليها، فيقال: عبدُ اللهِ بنُ رَوْثَةَ، وأنَّ اللهَ قد غفر لي ذنبًا واحدًا.
          وقال الحَسَنُ البَصْرِيُّ: يخرج مِن النَّار رجلٌ بعد ألف عامٍ، وليتني كنت ذلك الرَّجل، لقد شهدت أقوامًا كانوا أزهد فيما أُحِلَّ لهم منكم فيما حُرِّمَ عليكم، ولهم كانوا أبصر بقلوبِهم منكم بأبصاركم، ولهم كانوا أشفق أن لا تقبل حسناتهم منكم ألَّا تؤخذوا بسيِّئاتكم.
          وقال حكيمٌ مِن الحكماء: إذا أردت أن تعلم قدرك عند الله فاعلم قدر طاعة الله في قلبك. وقال مَيْمُوْنُ بنُ مِهْرَانَ: ما فينا(13) خيرٌ إلَّا أنَّا نظرنا إلى قومٍ ركبوا الجرائم وعففنا عنها، فظننَّا أنَّ فينا خيرًا وليس فينا خيرٌ.
          فإن قال قائلٌ: كيف غفر لهذا الَّذي أوصى أهلَه بإحراقِه وقد جهل قدرة الله على إحيائِه، وذلك أنَّه قال: (إِنْ يَقْدَمْ عَلَى اللهِ يُعَذِّبْهُ(14)) وقال في روايةٍ أخرى: ((فَوَاللهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ(15))).
          قال الطَّبَرِيُّ: قيل: قد اختلف النَّاس في تأويل هذا الحديث، فقال بعضُهم: أمَّا ما كان مِن عفو الله تعالى عمَّا كان منه في أيَّام صحَّتِه مِن المعاصي فلندمِه عليها وتوبتِه منها عند موتِه، ولذلك أمر ولدَه بإحراقِه وتذريرِه(16) في البرِّ والبحر خشيةً مِن عقاب ربِّه، والنَّدم توبةٌ، ومعنى رواية مَن روى: ((فَوَاللهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ)) أي(17) ضَيَّقَ عليه، كقولِه تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}[الطَّلاق:7]، وقولِه تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}[الفجر:16]لم يُرِدْ بذلك وصف بارئِه ╡ بالعجز عن إعادتِه حيًّا، ويبيِّن ذلك قولُه في الحديث حين أحياه ربُّه (فَقَالَ(18): مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ) وبالخوف والتَّوبة نجا مِن عذابِه ╡.
          وقال آخرون في معنى قولِه (لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ) معناه القدرة الَّتي هي خلاف العجز، وكان عنده أنَّه إذا أُحرق وذُري في البرِّ والبحر أعجز ربَّه عن إحيائِه، قالوا: وإنَّما غُفِرَ له جهلُه / بالقدرة لأنَّه لم يكن تقدَّم مِن الله ╡ في ذلك الزَّمان أنَّه(19) لا يغفر الشِّرك به، وليس في العقل دليلٌ على أنَّ ذلك غير جائزٍ في حكمة الله؛ بل الدَّليل فيه على أنَّه ذو الفضل والإحسان والعفو عن أهل الآثام، وإنَّما نقول: لا يجوز أن يغفر الشِّرك بعد قولِه تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}[النِّساء:48]فأمَّا جواز غفران الله ذلك لولا الخبر في كتابِه فهو كان الأولى(20) بفضلِه والأشبه بإحسانِه لأنَّه لا يضرُّه كفر كافرٍ، ولا ينفعُه إيمان مؤمنٍ.
          وقال آخرون(21): غُفِرَ له وإن كان كفرًا مِن قولِه، مِن أجل أنَّه قالَه على جهلٍ منه بخطئِه فظنَّ(22) أنَّ ذلك صوابٌ. قالوا: وغير جائزٍ في عدل الله وحكمتِه أن يُسَوِّيَ بين مَن أخطأ وهو يقصد الصَّواب، وبين من تعمَّد الخطأ والعناد للحقِّ في العقاب.
          وقال آخرون: إنَّما غُفِرَ له، وإن كان كفرًا ممَّن قصد قولَه وهو يعقل ما يقول لأنَّه قالَه وهو لا يعقل ما يقول. وغير جائزٍ وصف مَن نطق بكلمة كفرٍ وهو لا يعلمُها كفرًا بالكفر، وهذا قالَه وقد غلب على فهمِه مِن الجزع الَّذي كان لحقَه لخوفِه(23) مِن عذاب الله ╡، وهذا(24) نظير الخبر الَّذي رُوِيَ عن النَّبيِّ صلعم في الَّذي يدخل الجنَّة آخر مَن يدخلُها فقال(25) له: ((إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا، فيقول للفرح الَّذي يدخلُه: يَا رَبِّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ مَرَّتَيْنِ(26))) قالوا: فهذا القول لو قالَه على فهمٍ منه بما يقول كان كفرًا، وإنَّما لم يكن منه كفرًا لأنَّه قالَه وقد استخفَّه الفرح مُرِيدًا به أن يقول: أنت ربِّي وأنا عبدك، فلم يكن مأخوذًا بما قال مِن ذلك.
          ويشهد لصحَّة هذا المعنى قولُه ╡: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيْمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوْبُكُمْ}[الأحزاب:5].
          قال المؤلِّفُ: وسأذكر كلام الأَشْعَرِيِّ ومذهبَه في هذا الحديث في كتاب الاعتصام في باب قولِه تعالى: {يُرِيْدُوْنَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ}[الفتح:15]فهو حديثٌ أكثرَ النَّاسُ فيه القول إن شاء الله تعالى [خ¦7506].
          وقولُه: (لَمْ يَبْتَئِرْ خَيْرًا) فإنَّ الأَصْمَعِيَّ والكِسَائِيِّ كانا يقولان فيه: لم يقدِّم خيرًا، وكان غيرُهما يقول(27): معناه أنَّه لم يقدِّم لنفسِه خيرًا خبَّأه لها، وقال: إنَّ أصل الابتئار الإخفاء، يقال منه: بَأَرْتُ الشَّيء وابْتَأَرْتُهُ اِبْتِئَارًا، ومنه سمِّيت الحُفْرَةُ البُؤْرَةُ، وفيه لغتان ابتأرت وابتيرت، ومصدرُه ابتئارًا. وقال صاحب «العين»: البئرة بوزن فعلة: ما دخرت(28) مِن شيءٍ.


[1] في (ت): ((وأخذ)).
[2] في المطبوع: ((فقال)).
[3] قوله: ((ذكر البخاريُّ)) ليس في (ت) و(ص).
[4] في (ص): ((وأقرب)).
[5] في (ص): ((فروي)).
[6] في (ص): ((يصلون ويصومون)).
[7] في (ص): ((ويخافون)).
[8] في (ت): ((ظننَّا به)).
[9] في (ز): ((ومع)) والمثبت من (ت) و (ص).
[10] قوله: ((معترفون)) ليس في (ص).
[11] في (ت) و(ص): ((قال)).
[12] في (ص): ((تفلقت)).
[13] في (ص): ((ما منَّا)).
[14] في المطبوع: ((إن يقدر عليَّ الله يعذِّبني)) وفي (ص): ((إن يقدر الله عليه يعذبه)).
[15] في المطبوع: ((عليَّ ليعذِّبني)).
[16] في (ت): ((وبذره)) وفي (ص): ((وذروه)).
[17] زاد في (ص): ((إن)) وفي (ت): ((أو إن)).
[18] في (ت) و(ص): ((قال)).
[19] في (ت) و(ص): ((بأنَّه)).
[20] في (ت) و(ص): ((أولى)).
[21] زاد في (ص): ((بل)).
[22] في (ت) و(ص): ((وظنَّ)).
[23] قوله: ((لخوفه)) ليس في (ت) و(ص).
[24] قوله: ((وهذا)) ليس في (ت) و(ص).
[25] في (ت) و(ص): ((فيقال)).
[26] قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/314) بعد أن ذكر هذا القول: ((والمحفوظ أن الذي قال أنت عبدي هو الذي وجد راحلته بعد أن ضلت)).
[27] في (ت) و(ص): ((وقال غيرهما)).
[28] في المطبوع: ((ما ادخرت)).