شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما قدم من ماله فهو له

          ░12▒ بَابُ: مَا قَدَّمَ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ لَهُ.
          فيهِ: عَبْدُ اللهِ، قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ(1) أَحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ). [خ¦6442]
          قال المؤلِّفُ: هذا الحديث تنبيهٌ للمؤمن على أن يقدِّم مِن مالِه لآخرتِه، ولا يكون خازنًا له وممسكَه عن إنفاقِه في طاعة الله تعالى، فيخيب مِن الانتفاع به(2) يوم الحاجة إليه، وربَّما أنفقَه وارثُه في طاعة الله فيفوز بثوابِه.
          فإن قيل: هذا الحديث يدلُّ على أنَّ إنفاق المال في وجوه البرِّ أفضل مِن تركِه لوارثِه، وهذا يُعارض قولَه صلعم لسَعْدٍ: ((إِنَّكَ أَنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُوْنَ النَّاسَ)).
          قيل: لا تعارض بينَهما، وإنَّما خصَّ النَّبيُّ صلعم سَعْدًا على أن يترك مالًا لورثتِه لأنَّ سَعْدًا أراد أن يتصدَّق بمالِه كلِّه في مرضِه، وكان وارثه ابنته والابنة لا طاقة لها على الكسب، فأمرَه صلعم بأن يتصدَّق منه بثُلُثِه ويكون باقيه لابنتِه ولبيت مال المسلمين، وله أجرٌ في كلِّ مَن يصل إليه مِن مالِه شيءٌ بعد موتِه.
          وحديث ابنِ مَسْعُوْدٍ إنَّما خاطب به صلعم أصحابَه في صحَّتِهم ونبَّه به مَن شحَّ على مالِه ولم تسمح(3) نفسُه بإنفاقِه في وجوه البرِّ أن ينفق منه في ذلك لئلَّا يحصل وارثُه عليه كاملًا موفَّرًا ويخيب هو مِن أجرِه، وليس فيه الأمر بصدقة المال كلِّه فيكون مُعارضًا لحديث سَعْدٍ، بل حديث عبدِ اللهِ مجملٌ يُفَسِّرُهُ حديث سَعْدٍ، ويدلُّ على صحَّة هذا التَّأويل ما ذكرَه أهل السِّير عن ابنِ شِهَابٍ أنَّ أبا لُبَابَةَ قال: ((يَا رَسُوْلَ اللهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْتُ فِيْهَا الذَّنْبَ، وَأَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ(4) صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ. قَاَل: يُجْزَئُكَ الثُلُثُ)) فلم يأمرْه بصدقة مالِه كلِّه.


[1] قوله: ((ماله)) ليس في (ص).
[2] زاد في (ت) و(ص): ((في)).
[3] في (ز) و (ص): ((تشح)) والمثبت من (ت).
[4] قوله: ((كلِّه)) ليس في (ت).