شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب في الأمل وطوله

          ░4▒ بابٌ فِي الأَمَلِ وَطُولِهِ.
          وَقَوْلِه ╡: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عِمْرَان:185]وَقَوْلِهِ تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[الحجر:3].
          وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ: ارْتَحَلَتِ الدُّنيا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنيا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ.
          فيه: ابنُ مسعود قَالَ: (خَطَّ النَّبيُّ صلعم خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا في الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطُوطًا(1) صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ، فقَالَ: هَذَا الإنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذي خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطوطُ(2) الصِّغَارُ الأعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا). [خ¦6417]
          وفيه: أَنَسٌ: (خَطَّ النَّبيُّ صلعم خُطُوطًا، فَقَالَ: هَذَا الأمَلُ، وَهَذَا أَجَلُهُ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الأَقْرَبُ). [خ¦6418]
          قال المؤلِّف: مثَّل النَّبيِّ صلعم في حديث ابن مسعود أمل ابن آدم وأجلَه وأعراض الدُّنيا الَّتي لا تفارقُه بالخطوط، فجعل أجلَه الخطَّ المحيط، وجعل أملَه وإعراضَه خارجة مِن ذلك الخطِّ، ومعلوم في العقول أنَّ ذلك الخطَّ المحيط به الَّذي هو أجلُه؛ أقرب إليه مِن الخطوط الخارجة منه، ألا ترى قولَه ◙ في حديث أنس: (فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الخَطُّ الأَقْرَبُ) يريد أجلَه؟ وفي هذا تنبيه مِن النَّبيِّ صلعم لأمَّته على تقصير الأمل، واستشعار الأجل خوف بغتة الأجل، ومَن غيَّب عنه أجلَه فهو حريٌّ بتوقُّعِه وانتظارِه خشية هجومِه عليه في حال غرِّة وغفلة، ونعوذ بالله مِن ذلك، فَلْيُرِض المؤمن نفسَه على استعمال(3) ما نُبِّه عليه، ويجاهد أملَه وهواه ويستعين بالله على ذلك، فإنَّ ابن آدم مجبول على الأمل كما قال صلعم في الباب بعد هذا: (لَا يَزَالُ قَلْبُ الكَبِيرِ شَابًّا فِي حُبِّ الدُّنيَا وَطُولِ الأَمَلِ).
          وقال الطَّبري: في قوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ}[الحجر:3]، يعني ذرِ المشركين يا محمَّد يأكلوا في هذه الدُّنيا ويتمتَّعوا مِن لذَّاتِها وشهواتِها(4) إلى أجلِهم الَّذي أجَّلتُ لهم، ويُلْهِهِمُ الأمل عن الأخذ بحظِّهم مِن طاعة الله ╡ فيها(5)، وتزوُّدهم لمعادِهم منها بما يقرِّبهم مِن ربِّهم. فسوف يعلمون غدًا إذا وردوا عليه، وقد هلكوا بكفرِهم بالله حين يعاينون عذاب الله أنَّهم كانوا في تمتُّعِهم بلذَّات الدُّنيا في خسران(6) وتبابٍ.
          ويروى (نَهَسَهُ) بالسِّين والشِّين، والنَّهس تناولٌ بالفم كالنَّهش، والحيَّة تنهش إذا عضَّت، والنَّهس(7) نثر اللحم، ونهس ينهس(8) من كتاب «العين»(9).


[1] في (ت) و(ص): ((خططاً)).
[2] في (ت) و(ص): ((الخطط)).
[3] في (ت) و(ص): ((استشعار)).
[4] في (ت) و(ص): ((من شهوتها ولذاتها)).
[5] في (ت) و(ص): ((الأخذ بطاعة الله فيها)).
[6] في (ت) و(ص): ((خسار)).
[7] في (ص): ((والنهش)).
[8] في (ز): ((نهس ينهش)) وفي (ص): ((ونهش ينهش)) ولعل الصواب المثبت.
[9] قوله: ((ويروى نهسه بالسين والشين،...من كتاب «العين»)) ليس في (ت).