شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: من بلغ ستين سنةً فقد أعذر الله إليه في العمر

          ░5▒ بابُ مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً(1) فَقَدْ أَعْذَرَ(2) إِلَيْهِ في الْعُمُرِ.
          لِقَوْلِهِ ╡: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}[فاطر:37]يعني الشَّيْبَ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (أَعْذَرَ اللهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حتَّى بَلَغَ(3) سِتِّينَ سَنَةً). [خ¦6419]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا(4) فِي حُبِّ(5) اثْنَتَيْنِ(6)؛ حُبِّ الدُّنيا وَطُولِ الأمَلِ). [خ¦6420]
          وفيه: أَنَسٌ، عن النَّبيِّ صلعم قَالَ: (يَكْبَرُ ابنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ: حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُرِ). [خ¦6421]
          وفيه: عِتْبَانُ بنُ مَالِك، قَالَ النَّبيَّ صلعم: (لَنْ يُوَافيَ عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، يَبْتَغِي بِهِا وَجْهَ اللهِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ). [خ¦6422] [خ¦6423]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ(7) صلعم: (يَقُولُ اللهُ ╡: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنيا، ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلا الْجَنَّةُ). [خ¦6424]
          قال المؤلِّف: روي عن عليِّ بن أبي طالب وابن عبَّاس وأبي هريرة في قولِه تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}[فاطر:37]قالوا: يعني: ستِّين سنةً، وعن ابن عبَّاس(8) أيضًا أربعون سنة.
          وعن الحَسَنِ البَصْرِيِّ ومَسْرُوْقٍ مثله، وحديث أبي هريرةَ حُجَّةٌ لقول عليِّ ومَن وافقَه في تأويل الآية.
          وقول مَن قال: / أربعون سنةً له وجهٌ صحيحٌ أيضًا، والحجَّة له قولُه ╡: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} الآية[الأحقاف:15]، فذكر ╡ أنَّ مَن بلغ الأربعين، فقد آن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه وعلى والديه ويشكرَهما.
          قال مالكٌ: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدُّنيا والعلم، ويخالطون النَّاس حتَّى يأتي لأحدهم أربعون سنةً، فإذا أتت عليهم اعتزلوا النَّاس واشتغلوا بالعبادة حتَّى يأتيَهم الموت. فبُلُوغ الأربعين نقلٌ لابنِ آدمَ مِن حالةٍ إلى حالةٍ أرفع منها في الاستبصار والإعذار إليه.
          وقولُه ◙: (أَعْذَرَ اللهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّيْنَ سَنَةً(9)) أي أَعْذَرَ إليه غاية الإعذار الَّذي لا إعذار بعدَه لأنَّ السِّتِّين قريبٌ مِن معترك العباد، وهو سنُّ الإنابة والخُشُوع والاستسلامِ لله ╡ وترُّقبِ المنيَّة ولقاءِ الله ╡، فهذا إعذارٌ بعد إعذارٍ في عمرِ ابنِ آدمَ لطفًا مِن الله تعالى لعبادِه حين نقلَهم مِن حالة الجهل إلى حالة العلم، وأعذر إليهم مرَّةً بعد أخرى ولم يعاقبْهم إلَّا بعد الحُجَج اللَّائحة المُبْكِتة لهم، وإن كانوا قد فطرَهم الله تعالى على حبِّ الدُّنيا وطول الأمل، فلم يتركْهم مهملَين دون إعذارٍ لهم وتنبيهٍ لهم(10)، وأكبر الإعذار إلى بني آدمَ بَعْثُهُ الرُّسُل إليهم، واختلف السَّلف في تأويل قولِه تعالى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيْرُ}[فاطر:37]فرُوِيَ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ أنَّه محمَّدٌ صلعم، وهو قول ابنِ زَيْدٍ وجماعةٍ، وعن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه الشَّيب.
          وحجَّة القول الأوَّل أنَّ الله تعالى بعث الرُّسُلَ مبشِّرين ومنذرين إلى عبادِه قطعًا لحجَّتِهم، وقال تعالى(11): {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِيْنَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُوْلًا}[الإسراء:15]ولقول ابنِ عبَّاسٍ أنَّ النَّذيرَ الشَّيبُ وجهٌ يَصِحُّ، وذلك أنَّ الشَّيب يأتي في سِنِّ الاكتهال، وهو علامةٌ لمفارقة سِنِّ الصِّبا الَّذي هو سِنُّ اللهو واللَّعب، فهو نذيرٌ أيضًا، ألا ترى قول إبراهيمَ ◙ حين رأى الشَّيب قَالَ: ((يَا رَبِّ مَا هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ: وَقَارٌ. قَالَ: رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا)).
          فبان رِفْقُ الله بعبادِه المؤمنين وعظيمُ لطفِه بهم حين أعذر إليهم ثلاث مرَّاتٍ: الأولى بالنَّبيِّ ◙ والمرَّتان في الأربعين وفي السِّتِّين؛ ليتمَّ حجَّتَه عليهم، وهذا أصلٌ لإعذار الحكام(12) إلى المحكوم عليهم مرَّةً بعد أخرى.
          فإن قيل: فما وجه حديث عِتْبَانَ في هذا الباب؟ قيل: له وجهٌ صحيح المعنى، وذلك أنَّه لمَّا كان بلوغ السِّتِّين غاية الإعذار إلى ابنِ آدمَ خشي البخاريُّ ☼ أن يظنَّ مَن لا يتَّسع فهمُه أنَّ مَن بلغ السِّتِّين وهو غير تائبٍ أن ينفذ عليه الوعيد، فذكر قول النَّبيِّ صلعم: ((لَنْ يُوَافِيَ عَبْدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِكَلِمَةِ الإِخْلَاصِ والتَّوْحِيْدِ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إلَّا حَرَّمَهُ اللهُ(13) عَلَى النَّارِ)) وسواءٌ أتى بها بعد السِّتِّين أو بعد المائة لو عُمِّرَها.
          وقد ثبت بالكتاب والسُّنَّة أنَّ التَّوبة مقبولةٌ ما لم يُغَرْغِر ابنُ آدمَ ويُعايِنْ قبْضَ روحِه، وكذلك قولُه صلعم: ((يَقُوْلُ اللهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَ إلَّا الجَنَّةَ)) وهذا عامُّ المعنى في كلِّ عمرِ ابن آدمَ؛ بلغ السِّتِّين أو زاد عليها، فهو ينظر إلى معنى حديث عِتْبَانَ في قولِه: ((مَا لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّه إلَّا الجَنَّة)) دليلٌ أنَّ مَن مات له ولدٌ واحدٌ فاحتسبَه أنَّ له الجنَّة، وهو تفسير قول المحدِّث: ((وَلَمْ نَسَلْهُ(14) عَنِ الوَاحِدِ)) حين قال النَّبيُّ(15) صلعم: ((مَنْ مَاتَ لَهُ ثلاثةٌ منَ الوَلَدِ أَدْخَلَهُ اللهُ الجنَّةَ. قِيْلَ: وَاثْنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: وَاثْنَانِ. وَلَمْ نَسَلْهُ عَنِ الوَاحِدِ)) إذ لا صَفِيَّ أقربَ إلى النُّفُوس مِن الولد(16)، وقد ذكرتُه في كتابِ(17) الجنائزِ [خ¦1250] [خ¦1251].


[1] في (ص): ((بلغ الستين)).
[2] زاد في (ت) و(ص) لفظ الجلالة: ((الله)).
[3] في (ت): ((بلغه)).
[4] قوله: ((شاباً)) ليس في (ت) و(ص).
[5] قوله: ((حب)) ليس في (ت) و(ص).
[6] زاد في (ت): ((في)).
[7] قوله: ((النَّبي)) ليس في (ت) و(ص).
[8] في (ص): ((وروى ابن عباس)) في المطبوع: ((وروي عن ابن عبَّاس)).
[9] قوله: ((سنة)) ليس في (ت) و(ص).
[10] قوله: ((لهم)) ليس في (ت) و(ص).
[11] في (ت) و(ص): ((وقال الله تعالى)).
[12] في (ت) و (ص): ((الحاكم)).
[13] في (ز): ((إلَّا حرَّمه)) والمثبت من (ت) و (ص).
[14] في (ت): ((ولم نسأله)) وكذا في الموضع بعده.
[15] قوله ((النَّبيُّ)) ليس في (ت) و(ص).
[16] في (ت) و(ص): ((من الواحد)).
[17] قوله: ((كتاب)) ليس في (ت) و(ص).