شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول النبي: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»

          ░3▒ بابُ قَوْلِ النَّبيِّ صلعم: (كُنْ في الدُّنيا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ).
          فيه: ابنُ عُمَرَ: (أَخَذَ النَّبيُّ صلعم بِمَنْكِبِي، وَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ). وَكَانَ ابنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا(1) أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. [خ¦6416]
          قال أبو الزِّناد: معنى هذا الحديث الحضُّ على قلَّة المخالطة وقلَّة الاقتناء والزُّهد في الدُّنيا. قال المؤلِّف: وبيان ذلك أنَّ الغريب قليل الانبساط إلى النَّاس؛ بل هو مستوحش منهم إذ لا يكاد يمرُّ بمَن يعرفُه فيأنس به، ويستكثر بخلطتِه فهو ذليل في نفسِه خائف، وكذلك عابر السَّبيل لا ينفذ في سفرِه إلا بقوَّتِه عليه وخفَّتِه مِن الأثقال غير متشبِّث بما يمنعُه مِن قطع سفرِه، معه زادٌ وراحلة يبلِّغانِه إلى بغيتِه(2) مِن قصدِه، وهذا يدلُّ على إيثار الزُّهد في الدُّنيا وأخذ البُلغة منها والكفاف، فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر ممَّا يبلِّغه إلى غاية سفرِه، فكذلك لا يحتاج المؤمن في الدُّنيا إلى أكثر مما يبلِّغه المحلَّ.
          وقولُه: (إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرَ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ) حضٌّ منه على أن يجعل الموت نصب عينيه، فيستعدَّ له بالعمل الصَّالح، وحضٌّ له على تقصير الأمل، وترك الميل إلى غرور الدُّنيا.
          وقولُه: (خُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ) حضٌّ على اغتنام أيَّام صحَّتِه فيمهد(3) فيها لنفسِه خوفًا مِن حلول مرض به يمنعُه مِن العمل.
          وكذلك / قولُه: (وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ) تنبيه على اغتنام أيَّام حياتِه ولا يمر عمرُه(4) باطلًا في سهوٍ وغفلة، لأنَّ مَن مات فقد انقطع عملُه وفاتَه أملُه وحضرَه(5) على تفريطِه ندمُه، فما أجمع هذا الحديث لمعاني الخير وأشرفَه.


[1] في (ت): ((فإذا)).
[2] صورتها في (ص): ((بغية)).
[3] في (ت) و(ص): ((فيمد)).
[4] في (ز): ((عنه)) والمثبت من (ص).
[5] في (ت): ((وخطره)).