شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب رفع الأمانة

          ░35▒ بَابُ: رَفْعِ الأَمَانَةِ.
          فيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ /
          قَالَ: إِذَا أُسْنِدَ الأمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ). [خ¦6496]
          وفيهِ: حُذَيْفَةُ قَالَ: (حَدَّثَنَا رَسُوْلُ اللهِ صلعم حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوْبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا، قَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الوَكْتِ(1)، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ المَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ، فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلانٍ رَجُلًا أَمِيْنًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَجْلَدَهُ(2)، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ) الحديثَ. [خ¦6497]
          وفيهِ(3): ابنُ عُمَرَ، أنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (إِنَّمَا النَّاسُ كَإبِلٍ مائَةٍ، لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً). [خ¦6498]
          قال المؤلِّفُ: حديث أبي هريرةَ وحُذَيْفَةَ مِن أعلام النُّبُوَّة لأنَّه صلعم ذكر فيهما فساد أديان النَّاس وتغيُّر أماناتِهم، وقد ظهر كثير مِن ذلك.
          وقولُه صلعم: (إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) هو كلامٌ مجملٌ، أحبَّ الأعرابيُّ _السَّائلُ النَّبيَّ صلعم_ شَرْحَهُ له فقال له: (كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ: إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ) فأجابَه صلعم بجوابٍ عامٍّ دخل فيه تضييع الأمانة وما كان في معناها ممَّا لا يجري على طريق الحقِّ، كاتِّخاذ العلماء الجهَّال عند موت أهل العلم، واتِّخاذ ولاة الجور وحكام الجور عند غلبة الباطل وأهلِه، وقد ذكر ابنُ أبي شَيْبَةَ مِن حديث المَقْبُرِيِّ عن أبي هريرةَ قالَ: قالَ النَّبيُّ صلعم: ((سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا(4) الرُّوَيْبِضَةُ)) قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: ((الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ)) وقد رأينا أكثر هذه العلامات وما بقي منها فغير بعيدٍ، روى ابنُ عُيَيْنَةَ عن عبدِ العزيزِ بنِ رُفَيع قال: سمعت شَدَّادَ بنَ مَعْقِلٍ قال: سمعت ابنَ مَسْعُوْدٍ يقول: أَوَّلُ مَا تَفْقِدُوْنَ مِنْ دِيْنِكُمُ الأَمَانِةَ، وآخر ما تَفْقِدُوْنَ الصَّلَاةَ.
          وروى يُونُسُ بنُ زَيْدٍ عن الزُّهْرِيِّ عن الصُّنَابِحِيِّ عن حُذَيْفَةَ قالَ: لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، وَيَكُوْنُ أَوَّلَ نَقْضِهِ الخُشُوْعُ. وقد تقدَّم معنى حديث حُذَيْفَةَ وما فيه مِن غرائب اللُّغة في بابِ إذا بقي في حثالةٍ مِن النَّاس(5) في كتابِ الفتنِ [خ¦7086].
          وقولُه: (النَّاسُ كَإبِلٍ مائَةٍ، لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً) يُرِيدُ صلعم أنَّ النَّاس كثيرٌ والمَرْضِّي منهم قليلٌ، كما أنَّ المائة مِن الإبل لا تكاد تُصاب فيها الرَّاحلة(6) الواحدة، وهذا الحديث إنَّما يُرَادُ به القُرُون المذمومة في آخر الزَّمان، ولذلك ذكرَه البخاريُّ في بابِ(7) رفعِ الأمانةِ، ولم يُرِدْ به صلعم زمن أصحابِه وتابعيهم لأنَّه قد شهد لهم بالفضل فقال: ((خَيْرُ القُرُوْنِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهُمْ، ثُمَّ الذَّيْنَ يَلُوْنَهُمْ، ثُمَّ يَجِيْءُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَخُوْنُوْنَ وَلَا يُؤْتَمَنُوْنَ، وَيَشْهَدُوْنَ وَلَا يُسْتَشْهَدُوْنَ، وَيَنْذُرُوْنَ وَلَا يَفُوْنَ(8))) الحديثَ، فهؤلاء أراد صلعم بقولِه: (النَّاسُ كَإِبِلِ مَائَةٍ) والله الموفِّق.


[1] في (ز): ((الكوكب)) وتحتمل ذلك في (ص) والمثبت من (ت).
[2] قوله: ((وما أجلده)) ليس في (ص).
[3] في (ت): ((فيه)).
[4] قوله: ((فيها)) ليس في (ص).
[5] قوله: ((معنى حديث حذيفة...حثالة من النَّاس)) ليس في (ت) و(ص).
[6] زاد في ت: ((إلَّا)).
[7] قوله: ((باب)) ليس في (ت) و(ص).
[8] في المطبوع: ((يوفون)).