شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب البكاء من خشية الله

          ░24▒ بَابُ: البُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ تَعَالَى.
          فيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ(1): رَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) الحديثَ. [خ¦6479]
          قال المؤلِّفُ: قد تقدَّم الكلام في هذا الحديث في كتابِ المُحَارِبِين في بابِ فضل مَن تركَ الفواحشَ [خ¦6806] ونذكر في هذا الباب ما رُوِيَ في البكاء مِن خشية الله تعالى عن الأنبياء صلوات الله عليهم، وعن السَّلف أيضًا، روى أَسَدُ بنُ مُوسَى عن عِمْرَانَ بنِ زَيْدٍ عن يَزِيْدَ الرَّقَاشِيِّ عن أَنَسِ بنِ مالكٍ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلعم: ((أَيُّهَا النَّاسُ، ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوا، فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَبْكُوْنَ فِي النَّارِ حَتَّى تَسِيْلَ دُمُوعُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ كَأَنَّها جَدَاوِلُ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ الدُّمُوعُ وَتَسِيْلُ الدِّمَاءُ فَتَقْرَحُ العُيُوْنُ، فَلَو أَنَّ السُّفُنَ أُجْرِيَتْ(2) فِيْهَا لَجَرَتْ)) وكان صلعم إذا قام إلى الصَّلاة سُمِعَ لجوفه أزيزٌ كأزيز المِرْجَلِ مِن البكاء، وهذه كانت سيرة الأنبياء والصَّالحين كأنَّ خوف الله أُشْرِبَ قلوبَهم واستولى عليهم الوجل حتَّى كأنَّهم عاينوا الحساب، وعن يَزِيْدَ الرَّقَاشِيِّ قال: يا لهفاه سبقني العابدون، وقطع بي نوحٌ يبكي على خطيئتِه، ويزيد لا يبكي على خطيئتِه، إنَّما سُمِّي نوحًا لطول ما ناح على نفسِه في الدُّنيا.
          وذكر ابنُ المباركِ عن مُجَاهِدٍ قال: كان طعام يحيى بن زَكَرِيَّا العشب، وكان يبكي مِن خشية الله، ما لو كان القارُّ على عينيه لحرقَه(3) ولقد كانت الدُّموع اتَّخذت في وجهه مجرًى.
          وقال ابنُ عبَّاسٍ: قال النَّبيُّ صلعم: ((كَانَ مِمَّا نَاجَى اللهُ مُوسَى: أَنَّه لَمْ يَتَعَبَّدِ العَابِدُوْنَ بِمِثْلِ البُكَاءِ مِنْ خِيْفَتِي، أَمَّا البَكَّاؤُوْنَ مِنْ خِيْفَتِي فَلَهُمُ الرَّفِيْقُ لَا يُشَارَكُوْنَ فِيْهِ)).
          وعن وُهَيْبِ بنِ الوَرْدِ أنَّ زَكَرِيَّا قال ليحيى ابنه شيئًا فقال له: يا أَبَه، إنَّ جِبْرِيْلَ أخبرني أنَّ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ مفازةً لا يقطعُها إلَّا كلُّ بَكَّاءٍ.
          وقال الحَسَنُ: أوحى الله إلى عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ ◙: أكحل عينيك بالبكاء إذا رأيت البطَّالين يضحكون.
          وعن وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ عن النَّبيِّ صلعم قال: ((لَمْ يَزَلْ أَخِي دَاوُدَ بَاكِيًا عَلَى خَطِيْئَتِهِ أَيَّامَ(4) حَيَاتِهِ كُلِّهَا، وَكَانَ يَلْبَسُ الصُّوْفَ وَيَفْتَرِشُ الشَّعْرَ وَيَصُوْمُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَيَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيْرِ بِالمِلْحِ وَالرَّمَادِ، وَيَمْزِجُ شَرَابَهُ بالدُّمُوْعِ، وَلَمْ يُرَ ضَاحِكًا بَعْدَ الخَطِيْئَةِ، وَلَا شَاخِصًا بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ حَيَاءً مِنْ رَبِّهِ وَهَذَا بَعْدَ المَغْفِرَةِ، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ خَطِيْئَتَهُ خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ يَضْطَرِبُ(5) كَأَنَّهُ أُعْجِبَ بِهِ، فَقَالَ: وَهَذِهْ خَطِيْئَةٌ أُخْرَى)).
          ورُوِيَ(6) عن مُحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ في قولِه تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}[ص:25]، قال: الزُّلْفَى: أوَّل / مَن يشرب مِن الكأس يوم القيامة داودُ وابنُه.
          قال بعض النَّاس: أرى هذه الخاصَّة لشربِه دُمُوعَه مِن خشية الله ╡، وكان عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ ☺ إذا وقف على قبرٍ بكى حتَّى يبلَّ لحيتَه، فقال له: قد تذكر الجنَّة والنَّار ولا تبكي وتبكي مِن هذا؟ قال: إنَّ رسول الله صلعم قال(7): ((إِنَّ القَبْرَ أَوَّلُ(8) مَنَازِلَ الآخِرَةِ، فَإِنْ(9) نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ)).
          وقال أبو رَجَاءٍ: رأيت مجرى الدُّمُوع مِن ابنِ عبَّاسٍ كالشِّراك البالي مِن البكاء.


[1] قوله: ((يوم لا ظلَّ إلَّا ظلُّه)) ليس في (ت) و(ص).
[2] في المطبوع: ((أجرين)).
[3] قوله: ((لحرقه)) ليس في (ت) و(ص)، وفي المطبوع: ((لخرقه)).
[4] في (ص): ((مدَّة)).
[5] قوله: ((يضطرب)) ليس في (ت) و(ص).
[6] في (ص): ((روي)).
[7] زاد في (ص): ((لي)) وقوله بعدها: ((إن)) ليس فيها.
[8] زاد في (ت) و(ص): ((منزلة من)).
[9] في (ص): ((فمن)).