شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها

          ░7▒ بَابُ: مَا يُحْذَرُ مِنْ زَهَرَةِ الدُّنيا وَالتَّنَافُسِ فِيْهَا.
          فيهِ: عَمْرُو بنُ عَوْفٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ إلى البَحْرَيْنِ، يَأْتِي(1) بِجِزْيَتِهَا، فَقَدِمَ بِالمَالٍ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ، فَوَافَتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبيِّ صلعم، فَلَمَّا انْصَرَفَ، تَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ فَقَالَ: أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ؟ قَالُوا: أَجَلْ، قَالَ: فَأَبْشِرُوا، وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ). [خ¦6425]
          وفيهِ: عُقْبَةُ بنُ عَامِرٍ: (خَرَجَ النَّبيُّ صلعم يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ...) الحديثَ، ثُمَّ قَالَ: (وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيْهَا). [خ¦6426]
          وفيهِ: أَبُو سَعِيْدٍ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِنَّ أَكْثَرَ مَا يُخَافُ(2) عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ، / قِيلَ: مَا بَرَكَاتُ الأَرْضِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: زَهْرَةُ الدُّنْيَا)، [خ¦6427] الحديث على ما جاء في كتاب الزَّكاة، في بابِ الصَّدقة على اليَتَامَى [خ¦1465].
          وفيهِ: عِمْرَانُ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (خَيْرُ القُرُوْنِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُوْنُ بَعْدَهُمْ، قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُوْنَ، وَيَخُونُوْنَ وَلَا يُؤْتَمَنُوْنَ، وَيَظْهَرُ فِيْهِمُ السِّمَنُ). [خ¦6428]
          وفيهِ: خَبَّابٌ، قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ مَضَوْا وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنيا شَيْئًا، وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنَ الدُّنيا مَا لَا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلَّا التُّرَابَ. [خ¦6430]
          قال المؤلِّفُ: هذه الأحاديث تنبيهٌ في أنَّ زهرة الدُّنيا ينبغي أن يَخشى سوءَ عاقبتِها وشرَّ فتنتِها مَن فتح الله عليه الدُّنيا، ويَحذر التَّنافس فيها والطُّمأنينة إلى زخرفِها الفاني لأنَّ النَّبيَّ صلعم خشي ذلك على أمَّتِه وحذَّرهم منه لعلمِه أنَّ الفتنة مقرونةٌ بالغنى، ودَلَّ حديث عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ أنَّ فتنة الدُّنيا لمَن يأتي بعد القرن الثَّالث أشدُّ لقولِه صلعم: ((ثُمَّ يَكُوْنُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُوْنَ وَلَا يُسْتَشْهَدُوْنَ)) إلى قولِه: ((وَيَظْهَرُ فِيْهِمُ السِّمَنُ)) فجعل صلعم ظهورَ السِّمَنِ فيهم وشهادتَهم بالباطل وخيانتَهم الأمانة(3) وتنافسَهم في الدُّنيا وأخذهم لها مِن غير وجهِها كما قال صلعم في حديث أبي سَعِيْدٍ: ((وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ فَهُوَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ)).
          وكذلك خَشي عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ ☺ فتنة المال، فرُوِيَ عنه أنَّه لما أُتِيَ بأموال كِسْرَى بات هو وأكابر الصَّحابة عليه في المسجد، فلمَّا أصبح وأصابتْه الشَّمس ائتلقت(4) تلك التِّيجان فبكى، فقال له عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوْفٍ: ليس هذا حينُ بكاءٍ، إنَّما هو حينُ شكرٍ. فقال عُمَرُ: إنِّي أَقُوْلُ: مَا فَتَحَ اللهُ هَذَا عَلَى قَوْمٍ قَطُّ إلَّا سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَقَطَعُوا أَرْحَامَهُمْ، وقَاَل: اللَّهُمَّ مَنَعْتَ هذا رَسُولَكَ إِكْرَامًا مِنْكَ لَهُ، وَفَتَحْتَهُ عَلَيَّ لِتَبْتَلِيَنِي بِهِ، اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي مِنْ فِتْنَتِهِ. فهذا كلُّه يدلُّ أنَّ الغنى بليَّةٌ وفتنةٌ، ولذلك استعاذ النَّبيُّ صلعم مِن شرِّ فتنتِه، وقد أخبر الله تعالى بهذا المعنى فقال لرسولِ الله(5) صلعم: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ(6)}[طه:131]وقرن الفتنة به(7)، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}[التَّغابن:15]، ولهذا آثر أكثر سلف الأمَّة التَّقلُّل مِن الدُّنيا وأخذ البُلْغة إِذِ التَّعرُّض للفتن غررٌ.
          وقولُه صلعم في حديث أبي سَعِيْدٍ: ((وَإِنَّ مِمَّا(8) يُنْبِتُ الرَّبِيْعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ)) فهو(9) أبلغ الكلام في تحذير الدُّنيا والرُّكون إلى غضارتِها، وذلك أنَّ الماشية يروقُها نبت الرَّبيع فتكثر أكلَه(10) فربَّما تفتَّقت سمنًا فهلكت، فضرب النَّبيُّ صلعم هذا المثل للمؤمن أن لا يأخذ مِن الدُّنيا إلَّا قدر حاجتِه، ولا يروقُه زهرتُها فتُهْلِكَه.
          وقال الأَصْمَعِيُّ: والحَبَطُ هو أن تأكل الدَّابَّة فتُكْثِرَ حتَّى تنتفخ لذلك بطنُها وتمرضَ عنه.
          وقولُه: (أَوْ يُلِمُّ) يعني يُدني مِن الموت، وقد تقدَّم الكلام في هذا الحديث في باب الصَّدقة على اليتامى في كتاب الزَّكاة [خ¦1465].
          وأمَّا قول خَبَّابٍ: (إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ مَضَوا وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا شَيْئًا) فإنَّه لم يكن في عهد النَّبيِّ صلعم مِن الفتوحات والأموال ما كان بعدَه، فكان أكثر الصَّحابة ليس لهم إلَّا القوت، ولم ينالوا مِن طيِّبات العيش ما يخافون أن ينقصَهم ذلك مِن طيِّبات الآخرة، ألا ترى قول عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ حين اشترى لحمًا بدرهمٍ: أين تذهب هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا}[الأحقاف:20]فدلَّ أنَّ التَّنعُّم في الدُّنيا والاستمتاع بطيِّباتِها يُنْقِص(11) كثيرًا مِن طيِّبات الآخرة.
          وقولُه: (إِنَّا أَصَبْنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا لَا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلَّا التُّرَابَ) قال أبو ذَرٍّ: يعني البنيان، ويدلُّ على صحَّة هذا التَّأويل أنَّ خَبَّابًا قال هذا القول وهو يبني حائطًا له، وقد تقدَّم بيان هذا(12) في كتاب المرضى في بابِ تمنِّي المريض الموت، فتأمَّله هناك فهو بيِّن في حديث خَبَّابٍ [خ¦5672].


[1] في (ت) و(ص): ((ليأتي)).
[2] في (ت): ((أخاف)).
[3] في (ت) و(ص): ((بالأمانة)).
[4] في المطبوع: ((ابتلقت)).
[5] في (ت) و(ص): ((لرسوله)).
[6] زاد في (ص): (({وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبْقَى})).
[7] قوله: ((وقرن الفتنة به)) ليس في (ص).
[8] في (ت): ((ما)).
[9] زاد في (ت): ((من)).
[10] في (ت): ((فيكثر أكلها)) وبعدها في (ص): ((ربما)).
[11] في المطبوع: ((تنقص)).
[12] قوله: ((بيان هذا)) ليس في (ت) و(ص).