شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يتقى من فتنة المال

          ░10▒ بَابُ: مَا يُتَّقَى مِنْ فِتْنَةِ المَالِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}[التَّغابن:15].
          فيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَالقَطِيْفَةِ، وَالخَمِيْصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ). [خ¦6435]
          وفيهِ: ابنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَوْ كَانَ لِابنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى لَهُمَا(1) ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ). [خ¦6436]
          وفي روايةِ ابنِ عَبَّاسٍ: (وَلَا يَمْلَأُ عَيْنَ ابنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ) وروى مثلَه ابنُ الزُّبَيْرِ وَأنَسٌ عن النَّبيِّ صلعم وَقَالَ أَنَسٌ في حديثِهِ: (وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ). [خ¦6437]
          وفيه: أَنَسٌ، عَنْ أُبَيٍّ، كُنَّا نَرَى هَذَا مِنَ القُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}[التَّكاثر:1]. [خ¦6440]
          قال المؤلِّفُ: معنى الفتنة في كلام العرب الاختبار والابتلاء، ومنه قولُه تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوْنًا}[طه:40]أي اختبرناك، والفتنة الإمالة عن القصد، ومنه قولُه تعالى: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ}[الإسراء:73]أي لَيُمِيْلُوْنَكَ، والفتنة أيضًا الإحراق مِن قولِه تعالى(2): {يَوْمَ هُمْ على النَّارِ يُفْتَنُونَ}[الذَّاريات:13]أي يحرقون، هذا قول ابن الأَنْبَارِيِّ. والاختبار والابتلاء يجمع(3) ذلك كلَّه، وقد أخبر الله تعالى عن الأموال والأولاد أنَّها فتنةٌ، وقال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}[التَّكاثر:1]، وخرج لفظ الخِطاب على العُمُوم لأنَّ الله تعالى فطر العباد على حبِّ المال والولد، ألا ترى قولَه صلعم: (لوْ كَانَ لِابنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا) فأخبر عن حرص العباد على الزِّيادة في المال، وأنَّه لا غاية له يقنع بها ويقتصر عليها، ثمَّ أتبع ذلك بقولِه: (وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ) يعني إذا مات وصار في قبرِه ملأ جوفَه التُّراب، وأغناه بذلك عن تراب غيرِه حتَّى يصير رميمًا.
          وأشار ◙ بهذا المثل إلى ذمِّ الحرص على الدُّنيا والشَّره على الازدياد منها؛ ولذلك آثر أكثر السَّلف التَّقلُّل مِن الدُّنيا والقناعة بالكفاف(4) فرارًا مِن التَّعرُّض لما لا يعلم كيف النَّجاة مِن شرِّ فتنتِه، واستعاذ النَّبيُّ صلعم مِن شرِّ فتنة الغنى، وقد علم كلُّ مؤمنٍ أنَّ الله ╡ قد أعاذَه مِن شرِّ كلِّ فتنةٍ، وإنَّما دعاؤُه بذلك صلعم تواضعًا لله ╡ وتعليمًا لأمَّتِه / وحضًّا لهم على إيثار الزُّهد في الدُّنيا.
          وقولُه: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّيْنَارِ) إلى آخر الحديث، فيه ذمُّ مَنْ فَتَنَهُ متاع الدُّنيا الفاني، و(تَعِسَ) قيل معناه هَلَكَ، وقيل: التَّعَسُ أن يخرَّ على وجهِه، وقد ذكرتُ اختلاف أهل اللُّغة في تفسير هذه الكلمة في كتاب الجهاد في باب الحراسة في الغزو في سبيل الله [خ¦2886].


[1] قوله ((لهما)) ليس في (ت) و(ص).
[2] قوله: (({وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ}... من قوله تعالى)) ليس في (ت) و(ص).
[3] في (ت): ((بجمع)).
[4] في (ت) و(ص): ((والكفاف)).