شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب التواضع

          ░38▒ بَابُ: التَّوَاضُعِ.
          فيهِ: أَنَسٌ قَالَ: (كَانَتْ نَاقَةُ النَّبيِّ صلعم لَا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُوْدٍ لَهُ فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِيْنَ، وَقَالُوا: سُبِقَتِ العَضْبَاءُ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: إِنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ لَا يُرْفَعَ شَيْءٌ(1) مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ). [خ¦6501]
          وفيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِنَّ اللهَ ╡ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا، فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أَحْبَبْتُهُ فكُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ التي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فإِنْ سَأَلَنِي لأعْطِيَنَّهُ، وَإِنِ اسْتَعَاذَنِي لأعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ). [خ¦6502]
          قال المؤلِّفُ(2): في حديث أَنَسٍ بيان مكان الدُّنيا عند الله ╡ مِن الهوان والضِّعة، ألا ترى قولَه صلعم: ((إِنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ أَلَّا يُرْفَعَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ)) فنبَّه بذلك أمَّتَه صلعم على ترك المباهاة والفخر بمتاع الدُّنيا، وأنَّ ما كان عند الله ╡ في منزلة الضِّعة فحقٌّ على كلِّ ذي عقلٍ الزُّهد فيه وقلَّة المنافسة في طلبِه، وترك التَّرَّفع والغبطة بنيلِه لأنَّ المتاع به قليلٌ والحساب عليه طويلٌ.
          وفي حديث أبي هريرةَ مِن معنى الباب أنَّ التَّقرُّب إلى الله ╡ بالنَّوافل حتَّى تستحقَّ المحبَّة منه تعالى لا يكون ذلك إلَّا بغاية التَّواضع والتَّذلُّل له. وفيه أنَّ النَّوافل إنَّما يزكو ثوابُها عند الله ╡ لمَن حافظ على فرائضِه وأدَّاها.
          ورأيت لبعض النَّاس أنَّ معنى قولِه تعالى: ((فَأَكُوْنُ عَيْنَيْهِ اللَّتَيْنِ يُبْصِرْ بِهِمَا وَأُذُنَيْهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ)) قال: وجه ذلك أنَّه لا يُحَرِّكُ جارحةً مِن جوارحه إلَّا في الله ولله، فجوارحُه كلُّها تعمل بالحقِّ، فمَن كان كذلك لم تُرَدَّ له دعوةٌ.
          وقد جاء في فضل التَّواضع آثارٌ كثيرةٌ، روى الطَّبَرِيُّ مِن حديث شُعْبَةَ عن العَلَاءِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ عن أبيه عن أبي هريرةَ قالَ: قالَ رَسُوْلُ اللهِ صلعم: ((مَا تَوَاضَعَ رَجُلٌ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً)) وعَنْ عِكْرِمَةَ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: ((مَا مِنْ بَنِي آدَمَ أَحَدٌ إِلَّا وَفِي رَأْسِهِ سِلْسِلَتَانِ، إحداهما فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَالأُخْرَى فِي الأَرْضِ السَّابِعَةِ، فَإِذَا تَوَاضَعَ رَفَعَهُ اللهُ بِالسِّلْسِلَةِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ وَضَعَهُ اللهُ)) وقالت عَائِشَةُ: إِنَّكُمْ لَتَغْفَلُوْنَ عَنْ أَفْضَلِ العِبَادَةِ: التَّوَاضُعِ.
          قال الطَّبَرِيُّ: والتَّواضع مِن المحن الَّتي امتحن الله بها عبادَه المؤمنين لينظر كيف طاعتُهم إيَّاه(3) فيها، ولِمَا علم تعالى مِن مصلحة خلقِه في ذلك في عاجل دنياهم وآجل أخراهم، فمصلحة الدُّنيا به لو استعملَه النَّاس لارتفع والله أعلم الشَّحناء بينهم والعداوة، واستراحوا مِن تعب المباهاة والمفاخرة والتذُّوا بما قسم لهم، وكان لهم فيه صلاح ذات البين وارتفاع الحسد والشُّحِّ.
          روى النُّعْمَانُ بنُ بَشِيْرٍ عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قَالَ: ((للشَّيْطَانِ مَضَالٌّ وفُخُوخٌ، مِنْهَا البَطَرُ بَأَنْعُمِ اللهِ، والفَخْرُ بعَطَاءِ اللهِ، والتَّكبُّرُ عَلَى عِبَادِ اللهِ)).
          وتواضعُه ◙ معلومٌ لا يُحصى، ومنه أنَّه لمَّا دخل مكَّة جعل النَّاس يقولون: هو هذا، هو هذا، فجعل يُحني ظهرَه على الرَّحْلِ ويقول: ((اللهُ أَعْلَى وأَجَلُّ)) وهذه سيرة السَّلف المهديِّين. روى سُفْيَانُ عن أَيُّوْبَ الطَّائِيِّ عن قَيْسِ بنِ مُسْلِمٍ عن طَارِقِ بنِ شِهَابٍ قال: لمَّا قدم عمرُ الشَّام عرضت له مخاضةٌ، فنزل عن بعيرِه ونزع خفَّيه، فأمسكَهما بيدِه وخاض الماء ومعه بعيرُه، فقال له أبو عُبَيْدَةَ: قد(4) صنعت اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض. فصَكَّ في صدرِه وقال له(5): لو غيرك قالها يا أبا عُبَيْدَةَ، إنَّكم كنتم أذلَّ النَّاسِ وأحقرَ النَّاسِ، فأعزَّكم الله بالإسلام، فمهما تطلبون العزَّ في غيرِه يذلُّكم الله.
          وروى ابنُ وَهْبٍ بإسنادِه عن أبي هريرةَ أنَّه أقبل في السُّوق يحمل حزمة حطبٍ وهو يومئذٍ خليفةٌ لمروانَ فقالَ: أوسع الطَّريق للأمير. فقيل له: تُكفى، أصلحك الله. فقال: أوسع الطَّريق، والحزمة عليه.
          وعن عبدِ اللهِ بن سَلَامٍ أنَّه خرج مِن حائطٍ له بحزمة حطبٍ يحملُها فقيل له: قد(6) كان في ولدك وعبيدك مَن يكفيك هذا. قال: أردت أن أُجرِّب قلبي هل يُنكر هذا. وعن سَالِمِ بنِ عبدِ اللهِ أنَّه / كان يخرج إلى السُّوق(7) فيشتري حوائج نفسِه. وكان الرَّبِيْعُ بنُ خُثَيْمٍ يكنس الحُشَّ بنفسِه، فقيل له: إنَّك تُكفى هذا. فقال: أحبُّ أن آخذ نصيبي مِن المهنة. ولو تقصَّينا تواضعَهم ♥ لطال به الكتاب، وفيما ذكرناه دليلٌ على ما تركناه إن شاء الله تعالى.


[1] في (ص): ((يرفع شيئاً)).
[2] قوله: ((قال المؤلِّف)) ليس في (ت) و(ص).
[3] قوله: ((إيَّاه)) ليس في (ت) و(ص).
[4] في (ص): ((لقد)).
[5] قوله: ((له)) ليس في (ت) و (ص).
[6] في (ت): ((لقد)).
[7] قوله: ((السَّوق)) زيادة من (ت) و (ص).