شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب القصد والمداومة على العمل

          ░18▒ بَابُ: القَصْدِ وَالمُدَاوَمَةِ عَلَى العَمَلِ.
          فيهِ: عَائِشَةُ: (سُئِلَتْ أَيُّ العَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبيِّ(1) صلعم؟ قَالَتِ: الدَّائِمُ، قِيْلَ: فَأيُّ حِيْنٍ كَانَ يَقُوْمُ؟ قَالَتْ: كَانَ يَقُوْمُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ). [خ¦6461]
          وفيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِهِ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا(2) وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا). [خ¦6463]
          وفيهِ: عَائِشَةُ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ، وَإِنَّ أَحَبَّ العَمَلِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ، وَإِنْ قَلَّ). [خ¦6464]
          وَقَالَ فِي حديثٍ آخرَ: (اكْلَفُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيْقُوْنَ). [خ¦6465]
          وَقَالَ عَلْقَمَةُ: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ، كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبيِّ صلعم هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأيَّامِ(3)؟ قَالَتْ: لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيْمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيْعُ مَا كَانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ ◙ يَسْتَطِيْعُ). [خ¦6466]
          وفيهِ: أَنَسٌ: (صَلَّى لَنَا النَّبيُّ صلعم يَوْمًا الصَّلَاةَ، ثُمَّ رَقِيَ المِنْبَرَ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ الآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلَاةَ الجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قِبَلِ هَذَا الجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ كَاليَوْمِ في الخَيْرِ وَالشَّرِّ، مَرَّتَيْنِ). [خ¦6468]
          قال المؤلِّفُ: إنَّما حضَّ النَّبيُّ صلعم أُمَّتَهُ على القصد والمداومة على العمل وإن قلَّ خشية الانقطاع عن العمل الكثير فكأنَّه رُجُوعٌ في فعل الطَّاعات، وقد ذمَّ الله تعالى ذلك ومدح مَن أوفى بالنَّذر، وقد تقدَّم بيان هذا المعنى(4) في أبوابِ صلاةِ اللَّيلِ في آخرِ كتابِ الصَّلَاةِ(5) [خ¦730] [خ¦731].
          فإن قال قائلٌ: إنَّ قول عَائِشَةَ: إنَّ النَّبيَّ صلعم لم يكن يخصُّ شيئًا مِن الأيَّام بالعمل يُعارضُه قولُها: ((مَا رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ)) قيل: لا تعارض بين شيءٍ مِن ذلك، وذلك أنَّه صلعم كان كثير الأسفار في الجهاد، فلا يجد سبيلًا إلى صيام الثَّلاثة الأيَّام مِن كلِّ شهرٍ، فجمعَها(6) في شَعْبَانَ، ألا ترى قول عَائِشَةَ: ((كَانَ يَصُوْمُ حَتَّى نَقُوْلَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُوْلَ لَا يَصُوْمُ)) فهذا يُبَيِّنُ أنَّه كان لا يخصُّ شيئًا مِن الزَّمان بل كان يوقع العبادة على قدر نشاطِه وفراغِه لذلك مِن جهادِه وأسفارِه، فيقلُّ مرَّةً ويكثر أخرى، هذا قول المُهَلَّبُ، وقد قيل في معنى كثرة صيامِه صلعم في شَعْبَانَ وُجُوهٌ أُخَرُ قد ذكرتُها في بابِ صومِ شَعْبَانَ في كتابِ الصَّيامِ [خ¦1969] [خ¦1970].
          فإن قيل: فما معنى ذكر حديث أَنَسٍ في هذا الباب؟ قيل: معناه أن يوجب ملازمة العمل وإدمانَه ما مثَّل له مِن الجنَّة للرَّغبة، ومِن النَّار للرَّهبة، فكان في ذلك فائدتان: إحداهما: تنبيهٌ للنَّاس أن يتمثَّلوا الجنَّة والنَّار بين أعينِهم إذا وقفوا بين يدي الله ╡، كما مثَّلَهما(7) الله تعالى لنبيِّه وشَغَلَه بالفكرة فيهما عن سائر الأفكار الحادثة عن تذكير الشَّيطان بما يُسْهِيْهِ حتَّى لا يدري كم صَلَّى، والثَّانية: أن يكون الخوف مِن النَّار الممثَّلة والرَّغبة في الجنَّة نصب عيني المُصَلِّي فيكونا باعثين له على الصَّبر والمداومة على العمل(8) المبلِّغ إلى رحمة الله والنَّجاة مِن النَّار برحمتِه. /
          فإن قال قائلٌ: فإنَّ قولَه صلعم: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ) يُعارض قولَه ╡: {وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُوْرِثْتُمُوْهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ}[الزُّخرف:72].
          قيل: ليس كما توهَّمت، ومعنى الحديث غير معنى الآية، أخبر النَّبيُّ صلعم في الحديث أنَّه لا يستحقُّ أحدٌ دُخُول الجنَّة بعملِه، وإنَّما يدخلُها العباد برحمة الله، وأخبر الله تعالى في الآية أنَّ الجنَّة تُنال المنازل فيها بالأعمال، ومعلومٌ أنَّ درجات العباد فيها متباينةٌ على قدر تباين أعمالِهم، فمعنى الآية في ارتفاع الدَّرجات وانخفاضِها والنَّعيم فيها، ومعنى الحديث في الدُّخُول في الجنَّة والخُلُود فيها، فلا تعارض بين شيءٍ مِن ذلك.
          فإن قيل: فقد قال ╡ في سورة النَّحل: {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُوْنَ}[النحل:32]فأخبر أنَّ دُخُول الجنَّة بالأعمال أيضًا. فالجواب: أنَّ قولَه: {ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُوْنَ}[النَّحل:32]كلامٌ مجملٌ يبيِّنُه الحديث، وتقديرُه ادخلوا منازل الجنَّة وبُيُوتَها بما كنتم تعملون، فالآية مفتقرةٌ إلى بيان الحديث.
          وللجمع بين الحديث وبين الآيات وجهٌ آخرُ وهو أن يكون الحديث مُفَسِّرًا للآيات، ويكون تقديرُها: {وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوْهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ}[الزُّخرف:72]، و{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيْئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ}[الطُّور:19]و{ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النَّحل:32]مع رحمة الله تعالى لكم وتفضُّلِه عليكم لأنَّ فضلَه ╡ ورحمتَه لعبادِه في اقتسام المنازل في الجنَّة كما هو في دُخُول الجنَّة لا ينفكُّ منه، حين ألهمَهم إلى ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيءٌ مِن مُجازاة الله عبادَه مِن رحمتِه وتفضُّلِه، ألا ترى أنَّه ╡ جازى على الحسنة عشرًا، وجازى على السَّيئة واحدةً(9)، وأنَّه ابتدأ عبادَه بنعمٍ لا تُحصى، لم يتقدَّم لهم فيها سببٌ ولا فعلٌ، منها أنْ خلقَهم بشرًا سويًّا، ومنها نعمة الإسلام ونعمة العافية ونعمة تضمُّنِه ╡ لأرزاق عبادِه، وأنَّه كتب على نفسِه الرَّحمة، وأنَّ رحمتَه سبقت غضبَه، إلى ما لا يهتدى إلى معرفتِه مِن ظاهر النِّعم وباطنِها.
          وقولُه: (إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ(10)) قال أبو عُبَيْدٍ: لا أحسب يتغمَّدني إلَّا مأخوذًا مِن غمد السَّيف، لأنَّك إذا غمدتَه فقد ألبستَه إيَّاه وغشَّيتَه به.
          وقول عَائِشَةَ: (كَانَ عَمَلُهُ دِيْمَةً) يعني دائمًا، وأصل الدِّيْمَةِ المطر الدَّائم مع سُكُون، قال لَبِيْدٌ:
بَاتَتْ وَأَسْبَلَ وَاكِفٌ مِنْ دِيْمةٍ                     يُرْوِي الخَمَائِلَ دَائمًا تَسْجَامُهَا
          فأخبر أنَّ الدِّيمة الدَّائم، فشبَّهت عَائِشَةُ عملَه صلعم في دوامِه مع الاقتصاد وترك الغُلُوِّ بديمة المطر.


[1] في (ص): ((رسول الله)).
[2] في (ت): ((وقوموا)) وفي (ص): ((وقربوا)).
[3] في (ت) و(ص): ((يخصُّ من الأيَّام شيئًا)).
[4] قوله: ((بيان هذا المعنى)) ليس في (ت) و(ص).
[5] قوله: ((في آخر كتاب الصَّلاة)) ليس في (ت) و(ص).
[6] في (ص): ((فيجمعها)).
[7] في (ت) و (ص): ((مثَّلها)).
[8] زاد في ت: ((الصَّالح)).
[9] في (ص): ((الواحدة)).
[10] زاد في (ص): ((الله)).