شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب

          ░47▒ بابُ مَنْ لَمْ يَرَ الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ إِذَا لَمْ يُصِبْ.
          فيه: ابنُ عبَّاس: (أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبيَّ صلعم، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطُفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ، فَإِذَا النَّاسُ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا، فَالْمُسْتَكْثِرُ وَالْمُسْتَقِلُّ، وَإِذَا سَبَبٌ / وَاصِلٌ مِنَ الأرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ فَعَلا، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ(1) آخَرُ فَعَلا بِهِ(2)، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَر فَعَلا بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ(3) فَانْقَطَعَ ثُمَّ وُصِلَ.
          قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ(4) اللهِ بأَبِي وَأُمِّي أَنْتَ، وَاللهِ لَتَدَعَنِّي أَعْبُرَهَا، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: اعْبُرْهَا، قَالَ: أَمَّا الظُّلَّةُ: فَالإسْلامُ، وأمَّا الَّذي يَنْطُفُ مِنَ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ: فَالْقُرْآنُ، حَلاوَتُهُ تَنْطُفُ، فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَقِلُّ، وأمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأرْضِ فَالْحَقُّ الَّذي أَنْتَ عَلَيْهِ، تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيكَ اللهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَيَعْلُو بِهِ(5) ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ(6) ثُمَّ يَأْخُذُهُ(7) رَجُلٌ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ ثُمَّ يُوَصَّلُ لَهُ فَيَعْلُو بِهِ، فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ؟ فقَالَ النَّبيُّ صلعم: أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا، قَالَ: فَوَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لَتُحَدِّثَنِّي بالَّذي أَخْطَأْتُ، قَالَ: لا تُقْسِمْ). [خ¦7046]
          قال المهلَّب: إنَّما عبر بالظُّلَّة عن الإسلام لأنَّ الظُّلَّة نعمة مِن نعم الله على أهل الجنَّة، وكذلك كانت على بني إسرائيل، وكذلك كانت(8) تظلُّ النَّبيَّ صلعم أينما مشى قبل نبوَّتِه، فكذلك الإسلام نفَى ونقَّى(9) الأذى وينعم المؤمن في الدُّنيا والآخرة، وأمَّا العسل فإنَّ الله تعالى جعلَه شفاءً للناس وقال في القرآن: {شِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ}[يونس:57]وهو أبدًا حلو على الأسماع كحلاوة العسل على المذاق، وكذلك جاء في الحديث أنَّ في السَّمن شفاء مِن كلِّ داء، والسَّبب هو الحبل والعهد والميثاق، قال الله ╡: {أَيْنَمَا ثُقِفُواْ إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللّهِ}[آل عِمْرَان:112]أي: بعهد(10) وميثاق، والرجل الَّذي يأخذ بالحبل(11) بعد النَّبيِّ صلعم: أبو بكر الصديق يقوم بالحقِّ في أمَّتِه بعدَه، ثم يقوم بالحق بعدَه عمر، ثم يقوم بالحق بعدَه عثمان، وهو الَّذي انقطع له(12).
          قال المهلَّب: موضع الخطأ الَّذي قال له النَّبيِّ صلعم: (وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا) في قولِه: (ثُمَّ وُصِلَ لَهُ) إنَّما الخطأ في قوله: (لَه(13)) لأنَّ في الحديث: (ثُمَّ وُصِلَ) ولم يذكر له فالوصل إنَّما يكون لغيرِه، وكان ينبغي لأبي بكر أن يقف حيث وقفت الرُّؤيا، ويقول: ثم يوصل على نص الرُّؤيا، ولا يذكر الموصول له، ومعنى كتمان النَّبيِّ صلعم موضع الخطأ لئلَّا يحزن النَّاس بالعارض لعثمان، فهو الرَّابع الَّذي انقطع له ثم وُصل، أي وصلت الخلافة لغيرِه.
          وفي هذا تفسير للحديث الَّذي رواه أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد الرَّقَاشِي عن أنس بن مالك أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ)). وقال أبو عُبيد وغيرُه مِن العلماء: تأويل قولِه صلعم: ((الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ)) إذا أصاب الأوَّلُ وجه العبارة وإلَّا فهي لمَنْ أصابَها بعدَه، إذ ليس المدار إلَّا على إصابة الصَّواب فيما يرى النَّائم ليوصل بذلك إلى مراد الله ╡ بما ضربَه مِن الأمثال في المنام، فإذا اجتهد العابر وأصاب الصَّواب في معرفة المراد بما ضربَه الله تعالى في المنام فلا تفسير إلا تفسيرُه ولا ينبغي أن يُسألَ عنها غيرُه، إلَّا أن يكون الأوَّل قد قصَّر به تأويلُه فخالف أصول التَّأويل، فللعابر الثَّاني أن يبيِّن ما جهلَه ويخبر بما عندَه كما فعل النَّبيُّ صلعم بالصدِّيق ☺ فقال: (أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا) ولو كانت الرُّؤيا لأوَّل عابر سواء أصاب أو أخطأ ما قال له الرَّسول صلعم: (وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا)(14).
          وقال الكِرْماني: لا تُغيِّر الرُّؤيا عن وجهِها الَّتي رُئيت له عبارةُ عابر ولا غيرُه، وكيف يستطيع مخلوق أن يغيِّر ما جاءت نسختُه مِن أمِّ الكتاب، غير أنَّ الَّذي يستحبُّ لمَن لم(15) يتدرَّب في علم التَّأويل ولا اتَّسع في التَّعبير ألَّا يتعرَّض لما قد يسبق(16) إليه مَن لا يُشَكُّ في إمامتِه ودينِه، وله(17) مِن التَّجربة فوق تجربتِه.
          قال ابن قتيبة: وليس ينبغي أن يسأل صاحب الرُّؤيا عن رؤياه إلا عالمًا ناصحًا أمينًا كما جاء في الخبر عن النَّبيِّ صلعم: ((لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ إِلَّا عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ أَوْ ذِيْ رَأْيٍ مِنْ أَهْلِكَ، فَإِنَّهُ سَوفَ يَقُولُ خَيْرًا)) وليس معنى ذلك أنَّ الرؤيا الَّتي يقول عليها خيرًا كانت دِلالة على المكروه والشَّرِّ، فقد قيل لمالك: أَتُعَبَّرُ الرُّؤيا على الخير وهي عنده على الشَّرِّ لقول مَن قال أنها على ما أُوِّلت؟ فقال: معاذ الله، والرُّؤيا مِن أجزاء النُّبوَّة فيتلاعب بالنُّبوَّة؟           ولكنَّ الخير الَّذي يرجى مِن العالم والنَّاصح هو / التَّأويل بالحقِّ أو يدعو له بالخير ودفع الشَّرِّ، فيقول: خيرًا لك وشرًّا لعدوِّك إذا جهل التَّأويل.
          قال المهلَّب: وفيه أنَّ للعالم أن يسكت عن تعبير بعض الرُّؤيا إذا خشي منها فتنةً على النَّاس أو(18) غمًّا شاملًا، فأمَّا إن كان الغمُّ يخصُّ واحدًا مِن النَّاس، واستفسر العابر عنه فلا بأس أن يخبر بالعبارة لِيُعِدَّ الصَّبرَ ويكون على أهبتِه مِن نزول الحادثة به(19) لئلا تفجأه فتفزعَه، وقد فسَّر أبو بكر(20) ☺ للمرأة الَّتي رأت جائز بيتِها انكسر(21)، فقال: ((يَمُوتُ زَوْجُكِ وَتَلِدِيْنَ غُلَامًا)) لما حَصَّها(22) الحزن وسألت عن التَّفسير.
          وفيه: تخصيص معنى أمرِه(23) صلعم بإبرار المُقْسِم(24)؛ لأنَّ أبا بكر قد أقسم على النَّبيِّ صلعم ليخبرَه بموضع الخطأ فلم يُبِرَّ قسمَه، فعُلِمَ أنَّ إبرار القسم إنَّما يجوز إذا لم يكن في ذلك ضرر على المسلمين، وكذلك إذا أقسم على ما لا يجوز أن يقسم عليه لم ينبغ أن يُبِرَّ قسمه، ألا ترى لو أنَّ رجلًا أقسم(25) على أخيه ليشربنَّ الخمر، أو لَيَعْصِيَنَّ الله ╡ لكان فرضًا عليه أن لا يُبِرَّ قسمَه.
          وفيه: أنَّه لا بأس للتِّلميذ أن يقسم على أستاذِه أن يدعَه يفتي في المسألة لأنَّ هذا القسم إنَّما هو بمعنى الرَّغبة والتَّدرُّب، وفيه: جواز فتوى المفضول بحضرة الفاضل إذا كان مشارًا إليه بالعلم والأمانة.
          و(الظُّلَّة): سحابة لها ظل، و(تَنْطُِفُ): تُمطر، و(السَّبَبُ): الحبل.
          وقولُه: (يَتَكَفَّفُونَ) قال صاحب «العين»: تكفَّف واستكف: إذا بسط كفَّه ليأخذ.


[1] زاد في (ص): ((آخَر)).
[2] قوله: ((به)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((فَعَلا بِهِ ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ)) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((يا نبي)).
[5] قوله: ((به)) ليس في (ص).
[6] قوله: ((به)) ليس في (ص).
[7] في (ص): ((يأخذ به)).
[8] قوله: ((كانت)) ليس في (ص).
[9] في المطبوع: ((يقي ويقي)) والمثبت قراءتنا من (ز) و (ص).
[10] في المطبوع: ((بعهده)).
[11] في (ص): ((الحبل)).
[12] في (ص): ((به)).
[13] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[14] قوله: ((ولو كانت الرؤيا لأول عابر سواء... وأخطأت بعضاً)) ليس في (ص).
[15] قوله: ((لم)) ليس في (ص).
[16] في (ص): ((سبق)).
[17] في (ز): ((له)) والمثبت من (ص).
[18] قوله: ((أو)) ليس في المطبوع، وفي (ص): ((وغماً)).
[19] قوله: ((به)) ليس في (ص).
[20] زاد في (ص): ((الصديق)).
[21] في (ص): ((انكسرت)).
[22] زاد في (ص): ((من)). في المطبوع: ((خصها)) والمثبت قراءتنا من (ز) و (ص).
[23] في (ص): ((قوله)).
[24] في (ص): ((القسم)).
[25] في (ص): ((ألا ترى أن رجلاً لو أقسم)).