شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من كذب في حلمه

          ░45▒ بابُ مَنْ كَذَبَ فِي حُلُمِهِ. /
          فيه: ابنُ عبَّاسٍ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلُْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَفْعَلَ، وَمَنِ اسْتَمَعَ إلى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا وَلَيْسَ بِنَافِخٍ). [خ¦7042]
          وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قُوْلُهُ: ((مَنْ كَذَبَ فِي رُؤْيَاهُ)) و: ((مَنْ صَوَّرَ صُوْرَةً، وَمَنْ تَحَلَّمَ وَاسْتَمَعَ)) وَرُوِيَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ.
          وفيه: ابنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِنَّ مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِي عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ(1)). [خ¦7043]
          قال محمَّد بن جرير: إن قال قائل: ما وجه خصوص النَّبيِّ صلعم الكاذب في رؤياه بما خصَّه به مِن تكليفِه(2) العقد بين طرفي شعيرتين يوم القيامة، وهل الكاذب في رؤياه إلَّا(3) كالكاذب في اليقظة، وقد يكون الكذب في اليقظة أعظم في الجرم إذا كان شهادة توجب على المشهود عليه(4) بها حدًّا أو قتلًا أو مالًا يؤخذ منه، وليس ذلك في كذبِه في منامِه لأنَّ ضرر ذلك عليه في منامِه وحدِّه دون غيرِه.
          قيل له: اختلفت حالتاهما(5) في كذبِهما، فكان الكاذب على عينيه في منامِه أحقَّ بأعظم النَّكالين وذلك لتظاهر الأخبار عن النَّبيِّ صلعم أنَّ الرؤيا الصَّادقة جزء مِن ستَّة وأربعين جزءًا مِن النُّبوَّة، والنُّبوَّة(6) لا تكون إلَّا وحيًا مِن الله تعالى، فكان معلومًا بذلك أنَّ الكاذب في نومِه كاذب على الله تعالى أنَّه أراه ما لم يرَ، والكاذب على الله تعالى أعظم فرية وأولى بعظيم العقوبة مِن الكاذب على نفسِه بما أتلف به حقًّا لغيرِه أو أوجبَه عليه، وبذلك نطق محكم التَّنزيل فقال الله تعالى(7): {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذينَ كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود:18]، فأبان(8) ذلك صحَّة ما قلناه أنَّ الكذب في الرُّؤيا ليس كالكذب في اليقظة لأنَّ أحدَهما كذب على الله تعالى والآخر كذب على المخلوقين.
          قال المهلَّب في قولِه: (كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيْرَتَيْنِ) حجَّة للأشعريَّة في تجويزهم تكليف ما لا يطاق، وفي كتاب الله تعالى ما يزيد ذلك بيانًا وهو قولُه تعالى: {وَيُدْعَوْنَ(9) إلى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}[القلم:42]ولله أن يفعل في عبادِه ما شاء لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.
          ومنع مِن ذلك الفقهاء والمعتزلة واحتجُّوا بقولِه تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:286]، وقالوا: قولُه تعالى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ(10)}[القلم:42]وتكليفُه ◙ العقد بين شعيرتين وما أشبهَه مِن أحكام الآخرة وليست الآخرة دار تكليف، وإنَّما هي دار مجازاة فلا(11) حجَّة لهم في ذلك لأنَّ الله تعالى قد أخبر في كتابِه أنَّه(12) لا يكلِّف نفسًا مِن العبادات في الدُّنيا إلا وسعَها، ولو كلَّفهم ما(13) يقدرون عليه في الدُّنيا لكان في ذلك كون خبرِه الصَّادق على خلاف ما أخبر به، ولا يجوز النَّسخ في الأخبار ولا وقوعُها على خلاف إخبار الله تعالى، وعلى هذا التَّأويل لا تتضادُّ الآيات.
          وقال الطَّبري: إن سأل سائل عن معنى قولِه صلعم: ((مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ..)) الحديث، فقال: أرأيت إن استمع إلى حديث قوم لا ضرر على المحدِّثين في استماعِه إليهم، وللمستمع فيه نفع عظيم إمَّا في دينِه أو دنياه، أيجوز استماعُه إليه وإن كره ذلك المحدِّثون(14)؟ قيل: المستمع لا يعلم هل له فيه نفع إلا بعد استماعِه إليه، وبعد دخولِه فيما كَرِهَ له رسول الله صلعم فغير جائز له استماع حديثِهم وإن كان لا ضرر عليهم فيه؛ لنهي النَّبيِّ صلعم عن الاستماع إلى حديثِهم نهيًا عامًا، فلا يجوز لأحد مِن النَّاس أن يستمع إلى حديث قوم يكرهون استماعَه، فإن فعل ذلك فأمرُه إلى خالقِه إن شاء عذَّبَه وإن شاء غفر له(15).
          فإن قيل: أفرأيت مَن استمع إلى حديثِهم وهو لا يعلم هل يكرهون ذلك منه(16)، هل هو داخل فيمَن يُصَبُّ في أذنيه الآنُك يوم القيامة؟ قيل: إن الخبر إنَّما ورد بالوعيد لمستمع ذلك وأهلُه له كارهون، فأمَّا مَن لم يعلم كراهتَهم لذلك فالصَّواب ألَّا يستمع حديثَهم إلا بإذنِهم له في ذلك؛ للخبر الَّذي روي عن النَّبي صلعم: ((أَنَّهُ نَهَى عَنِ الدُّخُولِ بَينَ المُتَنَاجِيَيْنِ)) في كراهية ذلك إلَّا بإذنهم، والآنُك: الرَّصاص المذاب.
          وقولُهم: (أَفْرَى الفِرَى) يعني أكذب الكذب، والفِرية الكذبة العظيمة الَّتي يُتعجَّب منها، وجمعُها فِرًى مقصور مثل لحية ولحى، وقد تقدَّم القول في المصوِّرين(17) في كتاب الزِّينة قبل هذا(18). /


[1] في (ص): ((ما لم يره)).
[2] في (ص): ((تكليف)).
[3] قوله: ((إلا)) ليس في (ص).
[4] قوله: ((عليه)) ليس في (ص).
[5] في (ص): ((حالاتهما)).
[6] قوله: ((والنبوة)) زيادة من (ص).
[7] في (ص): ((فقال تعالى)).
[8] في (ز): ((فإن)) والمثبت من (ص).
[9] في (ز) و(ص): ((يوم يدعون)) في الموضعين وكذا أثبت في المطبوع ولم ينبه عليه والمثبت التلاوة.
[10] قوله: ((فلا يستطيعون)) ليس في (ص).
[11] في (ص): ((ولا حجة)).
[12] في (ص): ((بأنه)).
[13] في (ص): ((ما لا)).
[14] في (ص): ((المتحدثون)).
[15] في (ص): ((إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)).
[16] قوله: ((منه)) ليس في (ص).
[17] في (ص): ((التصوير)).
[18] قوله: ((قبل هذا)) ليس في (ص).