شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة

          ░4▒ بابُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ.
          فيه: عُبَادَةُ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ(1) جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) ورواه(2) أنس وأبو هريرة وأبو سعيد عن النَّبيِّ صلعم. [خ¦6987]
          ذكر الطَّبري في «تهذيب الآثار» أحاديث / كثيرة مخالفة لحديث هذا الباب في الأجزاء، فمنها(3) حديث ابن عبَّاس: ((إِنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبوَّةِ)) وحديث عبد الله بن عَمْرو أنَّها ((جُزْءٌ مِنْ تِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ(4))) وحديث العبَّاس: ((جُزْءٌ مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ)) وحديث ابن عمر وابن عبَّاس وأبي هريرة: ((جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ)).
          قال الطَّبري: والصَّواب أن يقال إن عامَّة هذه الأحاديث أو أكثرُها صحاح، ولكلِّ حديث منها مخرج معقول، فأمَّا قوله: ((مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبوَّةِ)) فإنَّ ذلك قول عامٌّ في كلِّ رؤيا صالحة صادقة لكلِّ مسلم رآها في منامِه على أيِّ أحوالِه كان، وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة والنَّخَعي أنَّ الرُّؤيا جزء مِن سبعين جزءًا مِن النُّبوَّة.
          وأمَّا قولُه أنَّها جزء مِن أربعين جزءًا(5) أو ستَّة وأربعين فإنَّه يريد بذلك ما كان صاحبُها بالحال الَّتي ذكر عن الصِّدِّيق ☺ أنَّه يكون بها، روى ابن وهب عن عَمْرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدَّثه أن زياد بن نعيم حدَّثه أنَّ أبا بكر الصِّدِّيق كان يقول: لأن يرى الرجل المسلم يسبغ الوضوء رؤيا صالحة أحبُّ إليَّ مِن كذا وكذا.
          قال الطَّبري: فمَن كان مِن أهل إسباغ الوضوء في السَّبَرَات والصَّبر في الله على المكروهات وانتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة فرؤياه الصَّالحة إن شاء الله جزء مِن أربعين جزءًا مِن النبوَّة، ومَن كانت حالُه في ذاتِه بين ذلك فرؤياه الصَّادقة بين الجزء مِن الأربعين إلى السَّبعين لا ينتقص عن سبعين ولا يزاد على الأربعين.
          قال المؤلِّف: أصحُّ ما في هذا الباب أحاديث السِّتَّة وأربعين جزءًا ويتلوها في الصِّحَّة حديث السَّبعين جزءًا، ولم يذكر مسلم في كتابه غير هذين الحديثين، فأمَّا حديث السَّبعين جزءًا فرواه عن أبي بكر بن(6) أبي شيبة عن أبي أسامة عن عُبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النَّبيِّ صلعم ورواه ابن نُمير ويحيى بن سعيد عن عُبيد الله عن نافع عن ابن عمر، ورواه اللَّيث أيضًا عن نافع عن ابن عمر وأمَّا سائرُها فهي مِن أحاديث الشُّيوخ.
          فإن قيل: فما وجه التَّوفيق بين حديثِ(7) السبعين جزءًا وحديث السِّتَّة وأربعين جزءًا، وهذا تعارض ولا يجوز النَّسخ في الأخبار؟ فالجواب: أنَّه يجب أن نعلم ما معنى كون الرُّؤيا جزءًا مِن أجزاء النُّبوَّة، فلو كانت جزءًا مِن ألف جزءٍ منها لكان ذلك كثيرًا.
          فنقول وبالله التَّوفيق: إنَّ لفظ النُّبَّوة مأخوذ مِن النَّبأ والإنباء، وهو الإعلام في اللُّغة والمعنى أنَّ الرُّؤيا إنباء صادق مِن الله ╡ لا كذب فيها(8)، كما أنَّ معنى النُّبوَّة الإنباء الصادق مِن الله ╡ الَّذي لا يجوز عليه الكذب، فشابهت الرُّؤيا النبوَّة في صدق الخبر عن الغيب.
          فإن قيل: فما معنى اختلاف الأجزاء في ذلك في القلَّة والكثرة؟ قيل: وجدنا الرُّؤيا تنقسم قسمين لا ثالث لهما، وهو أن يرى الرجل رؤيا جليَّة ظاهرة التَّأويل مثل مَن يرى(9) أنَّه يعطى شيئًا في المنام فيعطى مثلَه بعينِه في اليقظة، وهذا الضَّرب مِن الرؤيا لا إغراق في تأويلِها ولا رمز في تعبيرِها، والقسم الثَّاني: ما يراه مِن المنامات المرموزة البعيدة المرام في التَّأويل، وهذا الضرب يعسر تأويلُه إلا لحاذق(10) بالتَّعبير لبعد ضرب المثل فيه، فيمكن أن يكون هذا القسم مِن السَّبعين جزءًا والقسم الأوَّل الجليُّ مِن الستَّة والأربعين جزءًا لأنَّه إذا قلَّتِ الأجزاء كانت الرُّؤيا أقرب إلى النَّبأ الصَّادق، وآمن مِن وقوع الغلط في تأويلِها، وإذا كثرت الأجزاء بعدت بمقدار ذلك وخفي تأويلُها، والله أعلم بما أراد نبيُّه صلعم.
          وقد عرضت هذا القول على جماعة مِن أصحابي ممَّن وثقت بدينِه وفهمِه فحسَّنوه وزادني فيه بعضُهم مرةً، وقال لي: الدَّليل على صحَّتِه أنَّ النبوَّة على مثل هذه الصِّفة تلقَّاها نبيُّنا صلعم عن جبريل فقد أخبرنا ◙ أنَّه مرَّة كان يأتيه(11) جبريل ◙ بالوحي فيكلِّمُه بكلام فيعيه بغير مؤنة ولا مشقَّة، ومرَّة يلقي إليه جملًا وجوامع يشتدُّ عليه فكُّها وتبيينها، حتَّى تأخذَه الرُّحَضَاء ويتحدَّر منه العرق مثل الجُمان في اليوم الشَّديد البرد، ثم يعينُه الله ╡ على تبيين ما ألقى إليه مِن الوحي، فلمَّا كان تلقِّيه ◙ للنبوَّة المعصومة بهذه الصَّفة كان تلقِّي المؤمن الرُّؤيا(12) مِن عند الملك الآتي بها مِن أمِّ الكتاب بهذه الصِّفة، والله أعلم.
          وفيه: تأويل ثالث ذكرَه أبو سعيد السَّفاقسي عن بعض أهل العلم، قال: معنى قولِه: (جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا / مِنَ النُّبُوَّةِ) فإنَّ الله ╡ أوحى إلى محمَّد صلعم في الرُّؤيا ستَّة أشهر، ثمَّ بعد ذلك أوحى إليه بإعلام باقي عمرِه، وكان عمرُه في النُّبوَّة ثلاثة وعشرين عامًا فيما رواه عِكْرِمَة وعَمرو بن دينار عن ابن عبَّاس، فإذا نسبنا ستَّة أشهر مِن ثلاثة وعشرين عامًا وجدنا ذلك جزءًا مِن ستَّة وأربعين.
          وهذا التَّأويل يفسد مِن وجهين: أحدُهما: أنَّه قد اختُلِفَ في مدَّة النَّبيِّ صلعم، فقيل أنَّها كانت عشرين عامًا، رواه أبو سلمة عن ابن عبَّاس وعائشة، والوجه الثَّاني: أنَّه يبقى حديث السَّبعين جزءًا بغير معنى.


[1] في (ز): ((المؤمنين)) والمثبت من (ص).
[2] في (ص): ((رواه)).
[3] في (ص): ((منها)).
[4] قوله: ((وحديث عبد الله بن عمرو... من النبوة)) ليس في (ص).
[5] قوله: ((جزءاً)) ليس في (ص).
[6] قوله: ((أبي بكر بن)) ليس في (ز) و (ص) زدناه ليستقيم النص.
[7] قوله: ((فإن قيل: فما وجه التوفيق بين حديث)) ليس في المطبوع.
[8] في (ص): ((فيه)).
[9] في (ص): ((رأى)).
[10] في (ص): ((إلا لحذاق))، وفي المطبوع: ((إلا الحذاق)).
[11] قوله: ((عن جبريل فقد أخبرنا ◙ أن مرة كان يأتيه)) ليس في المطبوع.
[12] في (ص): ((للرؤيا)).