شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله

          ░1▒ باب أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ الله صلعم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ.
          فيه: عَائِشَةُ قَالَتْ: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلعم الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ...) وذكر الحديث بطولِه. [خ¦6982]
          قال المهلَّب: الرُّؤيا الصَّالحة الصَّادقة قد يراها الرَّجل المسلم والكافر والنَّاس كلُّهم، إلَّا أنَّ ذلك يقع لهم في النَّادر والوقت دون الأوقات، وخُصَّ النَّبيُّ صلعم بعموم صدق رؤياه كلِّها، ومُنِعَ الشَّيطان أن يتمثَّل في صورتِه لئلا يتسوَّر بالكذب على لسانه صلعم في النَّوم، والرُّؤيا جزء مِن أجزاء الوحي، فإن قيل: فإن الشَّيطان قد تسوَّر عليه في اليقظة وألقى في أمنيَّته ◙؟ قيل: ذلك التسوُّر(1) لم يستتمَّ؛ بل تلافاه الله ╡ في الوقت بالنَّسخ وأحكم آياته، وكانت فائدة تسوُّره إبقاء دليل البشريَّة عليه لئلا يغلو مغلون فيه، فيعبدونه مِن دون الله كما فُعل بعيسى وعزير.
          فإن قيل: كيف يُمنَع الشَّيطان أن يتصوَّر بصورة النَّبيِّ صلعم في المنام وأطلق له أن يتمثل ويدَّعي أنَّه الباري ╡ والصُّورة لا تجوز على الباري ╡؟ قيل له: إنَّما مُنِعَ أن يتصوَّر في صورة النَّبيِّ ◙ الَّذي هو صورة في الحقيقة دِلالة للعلم وعلامة على صحَّة الرُّؤيا مِن ضغثِها، وأطلق له(2) أن يتصوَّر على ما ليس بصورة، ولا يجوز عليه دِلالة للعلم أيضًا وسببًا إليه لأنَّه قد تقرَّر في نفوس البشر أنَّه لا يجوز التَّجسُّم على الباري ╡، فجاز أن يجعل لنا هذا الوهم في النَّوم دليلًا على علم ما لا سبيل إلى معرفته إلا مِن طريق التَّمثيل في الباري ╡ مرَّة وفي سائر الأرباب والسَّلاطين مرَّة، وكذلك قال أبو بكر بن الطيِّب الباقلَّاني: إنَّ رؤية الباري ╡ في النَّوم أوهام وخواطر في القلب في أمثال لا تليق به تعالى في الحقيقة، وتعالى سبحانه عنها دلالة للرَّائي على أمر كان أو يكون كسائر المرئيَّات.
          وهذا كلام حسن لأنَّه لمَّا كان خرق العادة دليلًا على صحَّة العلم في اليقظة للأنبياء يهدِ بها الخلق، جعل خرق العادة الجائزة(3) على النَّبيِّ صلعم بتصوِّر الشَّيطان على مثاله بالمنع مِن ذلك دليلًا على صحَّة العلم.
          فإن قيل: كان يجب أن تكون الرُّؤيا إذا رأى فيها الباري ╡ صادقة أبدًا كما كانت الرُّؤيا الَّتي رأى فيها النَّبيُّ صلعم، فالجواب أنَّه لما كان الله ╡ قد يعبَّر به في النَّوم على سائر السَّلاطين لأنَّه سلطان السَّلاطين ويعبَّر به عن(4) الآباء والسَّادة والمالكين، ووجدنا سائر السَّلاطين يجوز عليهم الصِّدق والكذب فأبقيت رؤياهم على العادة فيهم.
          ووجدنا النَّبيِّين لا يجوز الكذب على أحد منهم، ولا على شيء مِن حالهم فأبقيت حال النبوَّة في النَّوم على ما هي عليه في اليقظة مِن الصِّدق برؤية النَّبيِّ صلعم، وإذا قام الدليل عند العابر على الرُّؤيا الَّتي يرى فيها الباري ╡ أنَّه الباري لا يراد به غيرُه / لم يجز في تلك الرؤيا الَّتي قام فيها دليل الحق على الله كذبًا أصلًا، لا في مقال ولا في فعال، فتشابهت(5) الرُّؤيا مِن حيث اتَّفقت في معنى الصِّدق، واختلفت مِن حيث جاز غير ذلك، وهذا ما لا ذهاب عنه.
          وقولُه: (فَسَكَنَ لِذَلِكَ جَأْشُهُ) قال صاحب «العين »: الجأش: النَّفَس.


[1] في (ص): ((التصور)).
[2] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((الجارية)).
[4] في (ص): ((على)).
[5] في (ص): ((فشابهت)).