شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب رؤيا أهل السجون والفساد والشرك

          ░9▒ بابُ رُؤْيَا أَهْلِ السِّجْنِ وَأَهْلِ الفَسَادِ وَالشِّرْكِ.
          لِقَوْلِهِ ╡: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {يَعْصِرُونَ}(1)[يوسف:36-49].
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ ثُمَّ أَتَانِي الدَّاعِي لأجَبْتُهُ). [خ¦6992]
          قال المهلَّب: إنَّما ترجم بهذا لجواز أن يكون في رؤيا أهل الشِّرك رؤيا صادقة كما كانت رؤية الفَتَيَيْن صادقة، إلا أنَّه لا يجوز أن تضاف إلى النُّبوَّة إضافة رؤيا المؤمن إلى النُّبوَّة في التَّجزئة لقولِه صلعم: ((الرُّؤْيَا الحَسَنَةُ يَرَاهَا العَبْدُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِيْنَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ)) فدلَّ هذا أنَّه ليس كلُّ ما يصح له تأويل مِن الرُّؤيا وله حقيقة يكون جزءًا مِن ستَّة وأربعين جزءًا مِن النُّبوَّة، قال أبو الحسن بن أبي طالب: وفي صدق رؤيا الفَتَيَيْن حجَّة على مَن زعم أنَّ الكافر لا يرى رؤيا صادقة.
          فإن قيل: فإذا رأى الكافر رؤيا صادقة فما مزيَّة المؤمن عليه في رؤياه، وما معنى خصوصِه ◙ المؤمن بالرُّؤيا الصَّالحة(2) في قولِه: ((يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ))؟.
          فالجواب: أنَّ لمنام المؤمن مزيَّة على منام الكافر في الإنباء والإعلام والفضل والإكرام، وذلك أنَّ المؤمن يجوز أن يبشَّر على إحسانِه ويُنَبَّأ بقبول أعمالِه ويُحذَّر مِن ذنب عملَه ويُردَع عن سوء قد أمَّلَه، ويجوز أن يبشَّر بنعيم الدُّنيا ويُنَبَّأ ببؤسِها، والكافر فإن جاز أن يُحذَّر ويُتوعَّد على كفرِه فليس عنده ما عند المؤمن مِن الأعمال الموجبة لثواب الآخرة، وكل ما بُشِّرَ به الكافر مِن حالِه وغُبِط به مِن أعمالِه، فذلك غرور مِن عدوِّه ولطف مِن مكائدِه، فنقص لذلك حظُّه مِن الرُّؤيا الصَّادقة عن حظِّ المؤمن؛ لأنَّ الرَّسول(3) صلعم حين قال: ((رُؤْيَا المُؤْمِنِ وَرُؤْيَا الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِيْنَ جُزْءًا مِنَ النُّبوَّةِ)) لم يذكر في ذلك كافرًا ولا مبتدعًا(4)، فأخرجنا لذلك ما يراه الكافر مِن هذا التَّقدير والتَّجزئة لما في الأخبار مِن صريح الشَّرط لرؤيا المؤمن، وأدخلنا ما يراه الكافر مِن صالح الرُّؤيا في خبرِه المطلق صلعم: ((الرُّؤْيَا مِنَ اللهِ)) إذْ لم يشترط فيه مؤمنًا ولا غيرَه، فقلنا لذلك: ما صدق مِن منامات الكفَّار فهي مِن الله، ولم نقل كذا وكذا مِن النُّبوَّة لاسيَّما أنَّ الأشعريَّ وابن الطَّيِّب يريان(5) أنَّ جميع ما يُرَى في المنام مِن حقٍّ أو باطل خَلْقٌ لله ╡، فما كان منه صادقًا خلقَه بحضور الملك، وما كان باطلًا خلقَه بحضور الشَّيطان، فيضاف بذلك إليه.
          فإن قال: يجوز أن نسمِّي ما يراه الكافر صالحًا؟ قيل له: نعم وبشارة أيضًا كانت الرُّؤيا له أو لغيرِه مِن المؤمنين لقولِه ◙: ((الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ أَوْ تُرَى لَهُ)) فاحتمل هذا الكلام أن يراها الكافر لغيرِه مِن المؤمنين وهو(6) صالح للمؤمنين، كما أن يراه الكافر ممَّا يدلُّ على هدايتِه وإيمانِه فهو صالح له في عاقبتِه، وذلك حجَّة مِن(7) الله تعالى عليه وزجر له في منامِه، وقد خرَّج البخاري في بعض طرق حديث عائشة: ((أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلعم مِنَ الوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ)) أنَّها الصَّادقة؛ لأنَّها صالح ما يرى في المنام مِن الأضغاث وأباطيل الأحلام، وكما أنبأ الله سبحانَه الكفَّار في اليقظة بالرُّسل وبالمؤمنين مِن عبادِه دون المشركين مِن أعدائِه قامت الحجَّة على المشركين بذلك إلى يوم الدِّين، فكذلك يجوز إنباؤُهم في المنام / بما يكون حجَّة عليهم أيضًا.
          قال المهلَّب: وقولُه: ((لَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوْسُفُ ثُمَّ أَتَانِي الدَّاعِي لَأَجَبْتُهُ)) هذا مِن تواضعِه ◙ لئلا يُغْلَى في مدحِه، فقد قال(8) صلعم: ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى المَسِيحَ وَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) ثمَّ لم يمنعْه هذا مِن ذكر ما خُصَّ به مِن السِّيادة لقولِه صلعم: ((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ)) لكن في حكم الأدب إذا ذكر الأنبياء والرُّسل أن يتواضع. وفيه: التَّرفيع لشأن يوسف لأنَّه حين دُعِي للإطلاق مِن السِّجن قال: ارجع إلى ربِّك فاسألْه(9)، ولم يرد الخروج منه إلا بعد أن تُقِرَّ امرأة العزيز على نفسِها أنَّها راودتْه عن نفسِه فأقرَّت وصدَّقتْه، وقالت: أنا راودتُه عن نفسِه وأنَّه لمِن الصَّادقين، فخرج حينئذ.
          قال ابن قتيبة: فوصفَه بالأناة والصَّبر وأنَّه لم يخرج حين دعي، وقال: لو كنت مكانَه ثمَّ دعيت إلى ما دُعي إليه(10) مِن الخروج مِن السِّجن لأجبت ولم ألبث، وهذا مِن حسن(11) تواضعِه صلعم لأنَّه لو كان مكان يوسف فبادر وخرج لم يكن عليه نقص أو على يوسف ◙ لو خرج مع الرَّسول مِن السِّجن نقص ولا أثر، وإنَّما أراد أن يوسف ◙ لم يكن يستثقل محنة الله فيبادر ويتعجَّل؛ ولكنَّه كان صابرًا محتسبًا.
          وفي هذا الحديث زيادة ذكرَها البخاري في كتاب الأنبياء قال النَّبيُّ صلعم: ((نَحْنُ أَحَقُّ بِالشِّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ؛ إِذْ قَالَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى(12)، وَيَرْحَمُ(13) اللهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ(14) فِي السِّجْنِ...)) الحديث.
          قال ابن قتيبة: وقولُه: (نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيْمَ) فإنَّه لمَّا نزل عليه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيْمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} الآية[البقرة:260]، قال قوم سمعوا الآية: شكَّ إبراهيم ولم يشكَّ نبيُّنا، فقال النَّبيُّ(15) صلعم: ((أَنَا أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيْمَ)) تواضعًا وتقديمًا لإبراهيم على نفسِه يريد: إنَّا لم نشكَّ ونحن دونَه، فكيف يشكُّ هو؟!.
          ومثل هذا مِن تواضعِه صلعم قولُه: ((لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بنِ مَتَّى)) فخصَّ يونس وليس كغيرِه مِن أولي العزم مِن الرُّسل، فإذا كان لا يحبُّ أن يفضَّل على يونس، فغيرُه مِن الأنبياء الَّذين فوق يونس في الدَّرجة كإبراهيم وموسى وعيسى أحرى بأن لا يُحِبَّ أن يفضَّل عليهم!
          وتأويل قول إبراهيم: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة:260]أي بيقين البصر، واليقين جنسان: أحدُهما يقين السَّمع، والآخر يقين البصر، ويقين البصر أعلاهما؛ ولذلك قال النَّبيُّ صلعم: ((لَيْسَ الخَبَرُ كَالمُعَايَنَةِ)) حين ذكر قوم موسى وعكوفَهم على العجل قال: فأعلمَه الله تعالى أنَّ قومَه عبدوا العجل فلم يُلقِ الألواح فلمَّا عاينَهم عاكفين عليه غضب وألقى الألواح حتَّى تكسَّرت(16)، وكذلك المؤمنون بالقيامة والبعث والجنَّة والنَّار متيقِّنون أنَّ ذلك كلَّه حقٌّ وهم في القيامة عند النَّظر والعيان أعلى يقينًا، فأراد إبراهيم صلعم أن يطمئن قلبُه بالنَّظر الَّذي هو أعلى اليقين.
          وقال غير ابن قتيبة: لم يشكَّ إبراهيم ◙ أنَّ الله تعالى يحيي الموتى وإنَّما قال: أرني كيف، والجهل بالكيفيَّة لا يقدح في اليقين بالقدرة إذ ليس مِن المؤمنين أحدٌ يؤمن(17) بالغيوب وبخلق السَّموات والأرض إلا وقد يجهل الكيفيَّة، وذلك لا يقدح في إيمانِه، فضرب الله تعالى لإبراهيم ◙ مثلًا(18) مِن نفسِه فقال له: {خُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ(19)} الآية[البقرة:260]، فكما أُحيي هذه الطُّيور(20) عن دعوتك، فكذلك أحيي أهل السَّموات والأرض عن نفخة الصُّور {وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة:260]عزيز في صنائعِه إذ صنائعُه له لا عن مباشرة إلَّا عن قولِه: كن، وما سواه مِن الصَّانعين فلا يتمُّ له صنع إلا بمباشرة، وفي ذلك ذلَّة ومفارقة للعزَّة، حكيم: أي في أفعالِه وإن كان بائنًا عنها، والصَّانع إذا بان مِن صنعتِه تختلُّ أفعالُه إذا كان بائنًا.
          قال ابن قتيبة: وقولُه: ((يَرْحَمُ اللهُ لُوْطًا إِنْ كَانَ لَيَأْوِيْ إِلَى رُكْنٍ شَدِيْدٍ)) فإِنَّه أراد قولَه لقومِه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}[هود:80]في الوقت الَّذي ضاق فيه صدرُه واشتدَّ جزعُه بما دهمَه مِن قومِه، وهو يأوي إلى الله ╡ أشدِّ الأركان، قالوا: فما بعث الله نبيًّا بعد لوط إلَّا في ثروة مِن قومِه. / قال غير ابن قتيبة: ولا يُخْرِجُ هذا لوطًا مِن صفات المتوكِّلين على الله ╡ الواثقين(21) بتأييدِه ونصرِه، لكنَّ لوطًا ◙ أثار منه الغضبُ في ذات الله ╡ ما يُثير مِن البشر، فكان ظاهر قول لوط كأنَّه خارج عن التَّوكُّل، وإن كان مقصدُه مقصد المتوكِّلين فنبَّه النَّبيُّ صلعم على ظاهر قول لوط تنبيهَه على ظاهر قول إبراهيم، وإن كان مقصدُه غير الشكِّ لكن(22) لأنَّهم كانوا صفوة الله المخصوصين(23) بغاية الكرامة ونهاية القربة، لا يُقنع منهم إلَّا بظاهر مطابق للباطن بعيد مِن الشُّبهة؛ إذ العتاب والحجَّة مِن الله تعالى على قدر ما يصنع فيهم.
          وفي «كتاب مسلم» عن بعض رواة الحديث قال: إنَّما شكَّ إبراهيم: هل(24) يجيبه الله ╡ أم لا؟


[1] في (ص): ((لقوله ╡: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ} إلى: {يَعْصِرُونَ})).
[2] في (ص): ((الصادقة)).
[3] في (ص): ((النَّبي)).
[4] في (ص): ((كافر ولا مبتدع)).
[5] في (ص): ((يرون)).
[6] في (ص): ((فهو)).
[7] قوله: ((من)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((فقال)).
[9] قوله: ((فاسأله)) ليس في (ص).
[10] قوله: ((إليه)) ليس في (ص).
[11] في (ص): ((وهذا حسن من)).
[12] قوله: ((قال بلى)) ليس في (ص).
[13] في المطبوع: ((ورحم)).
[14] في (ص): ((ولو كنت)).
[15] في (ص): ((رسول الله)).
[16] في (ص): ((الألواح فتكسرت)).
[17] قوله: ((أحد يؤمن)) ليس في (ص).
[18] في (ص): ((فضرب الله مثلاً لإبراهيم)).
[19] قوله: ((فصرهن إليك)) ليس في (ص).
[20] في (ص): ((الطير)).
[21] قوله: ((الواثقين)) ليس في (ص).
[22] قوله: ((لكن)) ليس في (ص).
[23] في (ص): ((المخصوصون)).
[24] في (ص): ((أن)).