شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا رأى ما يكره فلا يخبر بها ولا يذكرها

          ░46▒ بابٌ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلَا يُخْبِرْ بِهَا وَلَا يَذْكُرْهَا.
          فيه: أَبُو سَلَمَةَ: (لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِي، حتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: وَأَنَا كُنْتُ أرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِي، حتَّى سَمِعْتُ(1) النَّبيَّ صلعم يَقُولُ: الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ اللهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلا يُحَدِّثْ بِهِ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ(2) فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلْيَتْفِلْ ثَلَاثًا وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّها لَنْ تَضُرَّهُ). [خ¦7044]
          وفيه: أَبُو سَعِيد قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّها مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّها مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا وَلَا يَذْكُرْهَا لأحَدٍ فَإِنَّها لَا تَضُرَّهُ). [خ¦7045]
          قال المؤلِّف: قد جاء في حديث أبي قتادة في الأبواب المتقدِّمة أنَّ التَّفل ثلاثًا إنَّما يكون عن شمالِه، فمرَّة جاء ((فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ))ومرَّة جاء ((فَلْيَنْفِثْ عَنْ شِمَالِهِ))، وفي هذا الباب (فَلْيَتْفِلْ) والمعنى فيه متقارب، وإنَّما أمر النَّبيُّ صلعم _والله أعلم_ إذا رأى ما يحب ألَّا يحدِّث بها إلَّا من يحبُّ لأنَّ المحبَّ لا يسوؤُه ما يُسرُّ به صديقُه، بل هو مسرور بما يسرُّه(3) وغير حريص أن يتأوَّل الرؤيا الحسنة شرَّ التَّأويل، ولو أخبر بها مَن لا يحبُّه لم يأمن أن يتأوَّلْها شرَّ التَّأويل، فربَّما وافق ذلك وجهًا مِن الحقِّ في تأويلِها فتخرج كذلك لقولِه صلعم: ((الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ)) وأمَّا إذا رأى ما يكرَه فقد أمرَه صلعم بمداواة ما يخاف مِن ضرِّها وتلافيه بالتَّعوُّذ بالله مِن شرِّها ومِن شرِّ الشَّيطان، ويتفل ثلاثًا عن يسارِه، ولا يحدِّث بها فإنَّها لن تضرَّه.
          فإن قال قائل: قد تقدَّم مِن قولك: قد يكون مِن ضروب الرُّؤيا منذرةً ومنبهةً للمرء على الاستعداد للبلاء قبل وقوعِه رفقًا مِن الله بعبادِه(4) لئلَّا يقع على غرَّة فيُقتل، فإذا(5) وقع على مقدمة وتوطين كان أقوى للنَّفس وأبعد لها مِن أذى البغتة، وقد سبق في علم الله ╡ إذا كانت الرُّؤيا الصَّحيحة مِن قبل الله محزنة أن تضرَّ مَن رآها، فما وجه الحكمة في كتمانها؟.
          قال المهلَّب: فالجواب أنَّه إذا أخبر بالرُّؤيا المكروهة لم يأمن أن تفسَّر له بالمكروه فيستعجل الهمَّ، ويتعذَّب بها ويترقَّب وقوع المكروه به فيسوء حالُه، ويغلب عليه اليأس مِن الخلاص مِن شرِّها، ويجعل ذلك نصب عينيه، وقد كان داواه النَّبيُّ صلعم مِن هذا البلاء الَّذي(6) عجَّله لنفسِه بما أمرَه به(7) مِن كتمانِها والتَّعوُّذ بالله مِن شرِّها، وإذا لم تفسَّر له بالمكروه بقي بين الطَّمع والرَّجاء المجبولة عليه النَّفس أنَّها لا تجزع إمَّا لأنَّها مِن قبل الشَّيطان أو أنَّ لها تأويلًا آخر على المحبوب، فأراد ◙ أن لا تتعذَّب أمَّتُه بانتظارِهم خروجَها(8) بالمكروه لأنَّ الرُّؤيا قد يبطؤ خروجُها وعلى أن أكثر ما يراه الإنسان ممَّا يكرهُه فهو مِن قبل الشَّيطان، فلو(9) أخبر بذلك كلِّه لم ينفكَّ دهرُه دائمًا مِن الاهتمام بما لا يؤذيه أكثرُه، وهذه حكمة بالغة واحتياط على المؤمنين، فجزى الله نبيَّنا عنَّا خيرًا وصلى عليه وسلَّم.
          قال الطَّبري: ووجه أمرِه صلعم بالنَّفث عن الشِّمال ثلاثًا _والله أعلم_ إخساءً للشَّيطان كما يتفل الإنسان عند الشَّيء القذر يراه أو يذكرُه، ولا شيء أقذر مِن الشَّيطان فأمرَه صلعم بالتَّفل عند ذكرِه، وأمَّا خصوصُه بذلك الشِّمال دون اليمين فلأنَّ تأتِّي الشُّرور كلِّها عند العرب مِن قبل الشِّمال، ولذلك سمَّتها الشُّؤمى، ولذلك كانوا يتشاءمون بما جاء مِن قِبَلِها مِن طائر ووحشي أخذ إلى ناحية اليمين، فسمَّى ذلك بعضُهم بارحًا وكانوا يتطيَّرون منه، وسمَّاه بعضُهم سانحًا، وأنَّه ليس فيه كثير اعتمالٍ مِن بطش وأخذ وإعطاء وأكل وشرب، وأصل طريق الشَّيطان إلى ابن آدم لدعائِه إلى ما يكرهُه الله ╡ مِن قِبَلِها.


[1] قوله: ((أبا قتادة يقول... حتَّى سمعت)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((يكرهه)).
[3] في (ص): ((سره)).
[4] في (ز): ((لعباده)) والمثبت من (ص).
[5] في (ص): ((وإذا)).
[6] زاد في (ص): ((كان)).
[7] قوله: ((به)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((لخروجها)).
[9] في (ص): ((ولو)).