شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب القميص في المنام

          ░17▒ بابُ القَمِيصِ فِي المَنَامِ.
          فيه(1) أَبُو سَعِيد: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونََ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدْيَ وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ، وَمَرَّ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ(2) قَمِيصٌ يَجُرُّهُ، قَالُوا: فَمَا أَوَّلْت يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الدِّينَ). [خ¦7008]
          وترجم له: بابُ جَرِّ القَمِيصِ فِي المَنَامِ.
          قال المهلَّب: أصل عبارتِه ◙ للقميص بالعلم في كتاب الله ╡ في قولِه تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4]يريد إصلاح(3) العمل وتطهير الأحوال الَّتي كانت(4) الجاهلية تستبيحُها، هذا قول ابن عبَّاس، والعرب تقول: فلان نقي الثَّوب إذا كان صالحًا في دينِه.
          وفيه دليل على أنَّ الرُّؤيا لا تخرج كلُّها على نصِّ ما رؤيت عليه، وإنَّما تخرج على ضرب الأمثال، فضرب المثل على الدِّين بالقميص، وعلى الإيمان والعلم باللَّبن مِن أجل اشتراك ذلك في المعاني، وذلك أنَّ القميص يستر العورات كما يستر الدِّين سيِّئ الأعمال الَّتي كان النَّاس في حال الكفر يأتونها، وفي حال الجهل يقترفونها.
          وقد تقدَّم أنَّ اللبن حياة الأجسام كما أنَّ(5) بالعلم حياة القلوب، هذا وجه اشتباه المعاني في هذه الأمثال الَّتي لها ضربت لأنَّ المثل يقتضي المماثلة، فإن(6) كان مثل لا مماثلة فيه لم يصحَّ التَّعبير به.
          فإن قيل: فإذا كان التعبير يقتضي المماثلة فما وجه كون جرِّ القميص في النَّوم حسنًا، وجرُّه في اليقظة منهي عنه وهو مِن الخيلاء؟ قال المهلَّب: فالجواب أنَّ القميص في الدُّنيا ستر وزينة كما سمَّاه الله تعالى، وأنَّه في الآخرة لباس التَّقوى، فلمَّا كان في الدُّنيا زينة(7) حرم منها ما كان مخرجًا إلى الخيلاء والكبرياء الَّذي لا يجمل بمخلوق مربوب ضعيف الخلقة سفيه الشَّهوة.
          فالكبر مع هذه الحال لا يجمل به ولا يصحُّ له لاضطرارِه إلى مدبِّر يديرُه ورازق يرزقُه ودافع يدفع(8) عنه ما لا امتناع له منه ويحميه مِن الآفات، فوجب أن تكون تلك الزِّينة في الدُّنيا مقرونة بدليل الذِّلة وعلامة العبوديَّة، هذا معنى وجوب تقصيرِها في الدُّنيا.
          ولما خلصت في الآخرة مِن أن يقترن بها كبر أو يخطر منه خاطر على قلب بشر حصلت لباس التَّقوى كما سمَّاها الله تعالى فحسن فيها الكمال والجرُّ لفضولِها على الأرض، ودلَّ ذلك الفضل المجرور على بقايا مِن العلم والدِّين يخلد بعده ويكون أثرًا باقيًا خلفَه، ولم يكن بسبيل إلى أن يكون فيه مِن معنى / الكبر شيء في ذلك الموطن، وليس هذا ممَّا يحمل على أحوال الرَّائين، وإنَّما هو أبدًا محمول على جوهر الشَّيء المرئيِّ، فجوهر القميص في الدُّنيا بقرينة الجرِّ له كبر وتعاظم، وجوهره في الآخرة بالدِّين والعلم، وليس في الآخرة فيه تحليل ولا تحريم، وإنَّما يحمل الشَّيء على حال الرَّائي له إذا تنوَّع جوهر الشَّيء المرئيِّ به أو فيه أو عليه في التَّفسير.
          وأكثر ما يكون ذلك في الدُّنيا لاختلاف أحوال أهلِها، وقد يكون في الآخرة شيء مِن ذلك وليس(9) هذا منه، ولا يجوز أن ينقل جوهر شيء مِن الثِّياب وغيرِها(10) عمَّا وضعت له في أصل العلم إلَّا بدليل ناقل لجوهر ذلك الشيء، كمَن رأى أحدًا مِن الأموات في نومِه وعليه ثياب يجرُّها مِن نار أو متَّقدة بنار فيفسِّرها أنَّه كافر يلبس في الدُّنيا ثياب الكبر والتَّبختر يجرُّها خيلاء فعوقب في النَّار بصنعِه ذلك في الدُّنيا، أو يرى عليه ثيابًا مِن قطران كما قال الله تعالى فيها فحينئذ تكون الثِّياب في الآخرة دليلًا(11) على العذاب بما كان عليه في الدُّنيا، ولا يكون حينئذ لباس زينة ولا لباس تقوى، هذا ممَّا يحمل في الآخرة على أحوال صاحب الرُّؤيا.


[1] في (ص): ((قال)).
[2] في (ز): ((وعلي)) والمثبت من (ص).
[3] في (ص): ((صلاح)).
[4] زاد في (ص): ((أهل)).
[5] قوله: ((أن)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((فإذا)).
[7] قوله: ((زينة)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((يرزقه ويدفع)).
[9] في (ص): ((ليس)).
[10] في (ص): ((أو غيرها)).
[11] في (ص): ((يكون في الثياب في الآخرة دليل)).