شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها

          ░29▒ باب: لا يُسْأَلُ أَهْلُ الشِّرْكِ عَنِ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا
          وَقَالَ الشَّعبيُّ: لا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمِلَلِ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ؛ لِقَوْلِهِ ╡: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}[المائدة:14]، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبيِّ صلعم: لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ وقولوا{آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا}(1) الآية[البقرة:136].
          وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَكِتَابُكُمِ الذي أُنْزِلَ على نَبِيِّهِ / أَحْدَثُ الأخْبَارِ بِاللهِ تَقْرَؤُونَهُ لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا، أَفَلا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ؟ وَلا وَاللهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الذي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ. [خ¦2685]
          اختلف العلماء في هذا الباب فقالت طائفةٌ: لا تجوز شهادة أهل الكفر بعضهم على بعض ولا على مسلمٍ. روي ذلك عن الحسن البصريِّ، وهو قول مالكٍ والشافعيِّ وأحمد وأبي ثورٍ.
          وقالت طائفةٌ: تقبل على المشركين وإن اختلفت مللهم، ولا تقبل على المسلمين. روي ذلك(2) عن شريحٍ وعمر بن عبد العزيز، وهو قول أبي حنيفة والثوريِّ وقالوا: الكفر كلُّه ملَّةٌ واحدةٌ. وقال ابن أبي ليلى والحكم وعطاء: تجوز شهادة أهل كلِّ ملَّةٍ بعضهم على بعض، ولا تجوز على ملَّةٍ غيرها، وهو قول الليث وإسحاق، للعداوة التي بينهم، وقد ذكرها(3) الله تعالى في كتابه فقال: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء}[المائدة:14].
          وقال ابن شعبان: أجمع العلماء أنَّه لا تجوز شهادة العدوِّ على عدوِّه في شيءٍ، وإن كان عدلًا، والعداوة تزيل العدالة فكيف بعداوة كافرٍ؟! واحتجَّ الكوفيُّون بما رواه مالكٌ عن نافعٍ، عن ابن عمر: ((أنَّ اليهود جاءوا إلى النبيِّ صلعم برجلٍ منهم وامرأةٍ زنيا فأمر النبيُّ صلعم برجمهما)).
          واحتجَّ من لم يجزها فقال: لا حجَّة لكم في هذا الحديث؛ لأنَّكم لا تقولون به ولا نحن؛ لأنَّ عندنا وعندكم أنَّ من شروط الرجم الإسلام، وقد روي أنَّ اليهوديَّين اعترفا بالزنا فرجمهما بإقرارهما لا بالشهادة.
          قال المُهَلَّب: وحجَّة من لم يجز شهادتهم على كافرٍ ولا على مسلمٍ أنَّ الله تعالى وصفهم بالكذب عليه وعلى كتابه، واتَّفق العلماء أنَّ الكاذبين على الناس لا تقبل شهادتهم، فالكذَّاب(4) على الله تعالى أعظم فهو أولى بردِّ شهادتهم.
          قال ابن القصَّار: وأيضًا فإنَّ المسلم الفاسق لا تقبل شهادته، والكافر أفسق، فلا يجوز قبوله على فاسقٍ مثله ولا(5) مطيعٍ.
          فإن قيل: فقد أجازت طائفةٌ من السلف شهادتهم على المسلم في الوصيَّة في السفر للضرورة، روي ذلك عن شريحٍ والنخعيِّ، وبه قال الأوزاعيُّ، وقال ابن عبَّاسٍ في تأويل قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}[المائدة:106]: من غير المسلمين.
          قيل: قد قال الحسن البصريُّ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}[المائدة:106]: من غير قومكم من أهل الملَّة.
          واتَّفق مالكٌ والكوفيُّون والشافعيُّ على أنَّهم لا تجوز شهادتهم في الوصيَّة في حضرٍ ولا سفرٍ، والآية فعندهم منسوخةٌ، فلم يلزم تأويل ابن عبَّاسٍ؛ لأجل من خالفه من العلماء، وقد شرط الله قبول العدول في الشهادات(6) بقوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء}[البقرة:282]، وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}[الطلاق:2].
          قال المُهَلَّب: وقوله صلعم: (لَا تُصَدِّقُوا أَهلَ الكِتَابِ) حجَّةٌ لمن لم يجز شهادتهم.
          وقوله: (وَلَا تُكَذِّبُوهُم) يعني: فيما ادَّعوا من الكتاب ومن أخبارهم؛ ممَّا يمكن أن يكون صدقًا أو كذبًا؛ لإخبار الله تعالى عنهم أنَّهم بدَّلوا الكتاب ليشتروا به ثمنًا قليلًا، ومن كذب على الله فهو أحرى بالكذب في سائر حديثه.
          وسأل بعض علماء النصارى محمَّد بن وضَّاحٍ فقال: ما بال كتابكم معشر المسلمين لا زيادة فيه ولا نقصان وكتابنا بخلاف ذلك؟ فقال له: لأنَّ الله تعالى وكل حفظ كتابكم إليكم فقال: {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ}[المائدة:44]فما وكله إلى المخلوقين دخله الخرم والنقصان، وقال في القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]فتولَّى الله حفظه فلا سبيل إلى الزيادة فيه ولا إلى النقصان(7).


[1] في (ص): (({آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وأنزل إليكم})).
[2] في (ص): ((هذا)).
[3] في (ص): ((ذكر)).
[4] في (ص): ((فالكذب)).
[5] زاد في (ص): ((على)).
[6] في (ص): ((الشهادة)).
[7] زاد في (ص): ((منه)).