شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد

          ░9▒ باب: لا يَشْهَدُ على شَهَادَةِ جَوْرٍ إِذَا أُشْهِدَ
          فيه: النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ(1) قَالَ: (سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لي مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لي فَقَالَتْ: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبيُّ صلعم، فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَنَا غُلامٌ، فَأَتَى بِيَ النَّبيَّ صلعم، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِهَذَا فقَالَ: أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأُرَاهُ قَالَ: لا تُشْهِدْنِي على جَوْرٍ). [خ¦2650]
          وَقَالَ مَرَّةً: (لَا أَشْهَدُ على جَوْرٍ).
          فيه: عِمْرَانَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، قَالَ عِمْرَانُ: ولا أَدْرِي أَذَكَرَ النَّبيَّ صلعم بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ). [خ¦2651]
          فيه: عَبْدُ اللهِ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (خَيْرُكم قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، مَرَّتَينِ، ثُمَّ يَجِيءُ قْوَمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ). [خ¦2652]
          قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا على الشَّهَادَةِ وَالْعَهْد.
          قال المُهَلَّب: في حديث النعمان دليلٌ أنَّ الرجل إذا فُهِم من عطيَّته فرارٌ من بعض الورثة أنَّه لا يعان عليها بشهادة ولا بإمضاء ويؤمر بارتجاعها، وإنَّما فهم ◙ الجور في ذلك لقولها: لا أرضى حتَّى تشهد النَّبيَّ صلعم، مع علمه بميله إليها وتجشَّم(2) مسرَّتها. ففيه دليلٌ أنَّ الحاكم / يحكم بما يفهم(3) من المسائل كما فهم النبيُّ صلعم أنَّه يطلب رضاها وتفضيل ولدها على إخوته فهذا هو الجور.
          قال غيره: وفي قوله صلعم: (لَا أَشْهَدُ عَلَى جَورِ) من الفقه ألَّا يضع أحدٌ اسمه في وثيقةٍ لا تجوز.
          ومن العلماء من رأى أن يضع اسمه في وثيقة الجور؛ ليكون شاهدًا عليه بأنَّه فعل ما لا يجوز له ليردَّ(4) فعله، وإن تعمَّد ذلك كان في الشهادة عليه جرحةٌ تسقط شهادته، والقول الأوَّل الذي يوافق الحديث أولى.
          قال المُهَلَّب: وفي حديث عِمْرَان تعديل القرون الثلاثة(5) على منازل متفاضلةٍ، وفيه شمول التجريح لمن يأتي بعدهم، وصفةٌ لمن لا تقبل شهادته ممَّن شهد على ما لم يشهد عليه، ويخون فيما اؤتمن ولا يفي بما حلف به أو نذره، فهذه صفات الجرحة.
          وقوله: (وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) يعني: أنَّه ليس لهم في الدنيا إلَّا كثرة الأكل واتِّباع اللذَّات، ولا رغبة لهم في أسباب الآخرة؛ لغلبة شهوات الدنيا عليهم.
          قال الطحاويُّ: واحتجَّ قوم بقوله صلعم: (يَشهَدُونَ وَلَا يُستَشهَدُونَ) فقالوا: لا تجوز شهادة من شهد بها قبل أن يسألها، وهو مذمومٌ. وخالفهم في ذلك آخرون وقالوا: بل هو محمودٌ مأجورٌ على ذلك. واحتجُّوا بأنَّ النبي صلعم إنَّما ذكر هذا في تغير الزمن فقال: ((يفشو الكذب حتَّى يشهد الرجل على الشهادة ولا يسألها، وحتَّى يحلف على اليمين ولا يستحلف))، فمعنى ذلك أنَّ يشهد كاذبًا؛ لقوله: ((ثمَّ يفشو الكذب)) فيكون كذا وكذا، فلا يجوز أن يكون ذلك الذي(6) يكون إذا فشا الكذب إلَّا كذبًا، وإلَّا فلا معنى لذكره فشوَّ الكذب، وأيضًا فإنَّ هذه الشهادة المذمومة لم يرد بها الشهادة على الحقوق، وإنَّما أريد بها الشهادة في الأيمان، يدلُّ على ذلك قول النَّخَعِيِّ في آخر الحديث، وهو الذي رواه، قال: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد.
          فدلَّ هذا من قول إبراهيم أنَّ الشهادة التي ذمَّ النبيُّ صلعم صاحبها في قول الرجل: أشهد بالله ما كان كذا على كذا، على معنى الحلف، فكره ذلك كما كره الحلف؛ لأنَّه مكروه للرجل الإكثار منه وإن كان صادقًا، فنهي عن الشهادة التي هي حلف بها، كما نهي عن اليمين إلَّا أن يستحلف فيكون حينئذٍ معذورًا، واليمين قد تسمَّى شهادةً، قال الله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ}[النور:6]، أي أربع أيمانٍ، وقد روي عن النبيِّ صلعم في تفضيل الشاهد المبتدئ بالشهادة ما رواه مالكٌ(7) عن عبد الله بن أبي بكرٍ، عن أبيه(8)، عن عبد الله بن عَمْرو بن(9) عثمان، عن ابن(10) أبي عَمْرة الأنصاريِّ، عن زيد بن خالدٍ الجُهَنِيِّ أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((ألا أخبركم بخير الشهداء، الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها))وفسَّره مالكٌ فقال: الرجل تكون عنده الشهادة في الحقِّ لمن لا يعلمها فيخبر بشهادته ويرفعها إلى السلطان.
          قال الطحاويُّ: فهذا رسول الله صلعم قد مدحه وجعله خير الشهداء، فأولى بنا أن نحمل الأخبار على هذا التأويل حتَّى لا تتضادَّ ولا تختلف، فتكون أحاديث هذا الباب على هذا المعنى الذي ذكرناه، ويكون حديث زيد بن خالدٍ على تفضيل المبتدئ بالشهادة لمن هي له أو المخبر بها الإمام.
          وقد فعل ذلك أصحاب النبيِّ صلعم وشهدوا ابتداءً، شهد أبو بكرة ومن كان معه على المغيرة بن شعبة، ورأوا ذلك لأنفسهم لازمًا، ولم يعنِّفهم عمر على ابتدائهم بها؛ بل سمع شهادتهم، ولو كانوا في ذلك مذمومين لذمَّهم، وقال: من سألكم عن هذا ألا قعدتم حتَّى تُسأَلوا، ولمَّا لم ينكر عليهم عمر ولا أحدٌ ممَّن كان بحضرته دلَّ أنَّ فرضهم ذلك وابتداؤهم لا عن مسألةٍ محمودٌ، وهو قول مالكٍ والكوفيِّين.
          قال الطحاويُّ: قوله: (وَيَشهَدُونَ وَلَا يُستَشهَدُونَ) حجَّةٌ لابن شُبْرُمَة في قوله: إنَّه من سمع رجلًا يقول: لفلانٍ عندي كذا وكذا، ولم يُشهده الذي عليه بذلك على نفسه فلا يقبل؛ لأنَّه لعلَّه أن يكون ذلك وديعةً عنده فليس بشيءٍ، فأمَّا أن يناقله الكلام فيقول: يا فلان، ألا تعطني / كذا الذي لي عندك. فقال: بل أنا معطيك فأنظرني، فيجوز أن يشهد عليه. قال: والحجَّة عليه قوله في حديث ابن مسعودٍ: (ثُمَّ يَجِيءُ قْوَمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ).
          قال إبراهيم: وكانوا ينهوننا ونحن غلمانٌ أن نحلف بالشهادة والعهد. فدلَّ أنَّ الشهادة المذمومة هي المحلوف بها التي يجعلها الإنسان عادته كما قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ}[البقرة:224].
          ولا خلاف بين العلماء أنَّ من رأى رجلًا يقتل رجلًا أو يغصبه مالًا أنَّه يجوز أن يشهد به، وإن لم يشهده الجاني على نفسه بذلك.
          فإن قيل: قوله صلعم: (تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ) يدلُّ أنَّ الشهادة والحلف عليها يبطلها.
          قيل: لا خلاف بين العلماء أنَّه تجوز الشهادة والحلف عليها، وهو في كتاب الله في ثلاثة مواضع: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ}[يونس:53]، وقال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ(11)}الآية[التغابن:7]{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}[سبأ:3]إلَّا ما ذكره ابن شعبان في كتاب «الزاهي» قال: من قال: أشهد بالله لفلانٍ على فلانٍ كذا. لم تقبل شهادته؛ لأنَّه حالفٌ وليس بشاهدٍ. والمعروف غير هذا عن مالكٍ، فانظره في كتبه.


[1] قوله: ((ابن بشير)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((وتقمن)).
[3] في (ص): ((فهم)).
[4] في (ص): ((يرد)).
[5] قوله: ((الثلاثة)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((أن)).
[7] في (ص): ((أبي بكر)).
[8] قوله: ((عن أبيه)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((أبي)).
[10] قوله: ((عن ابن)) ليس في (ص).
[11] قوله: ((لتبعثن)) ليس في (ص).