شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب شهادة المختبي

          ░3▒ باب: شَهَادَةِ المُختَبِئِ
          وَأَجَازَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْخائن الْفَاجِرِ.
          وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ / وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: السَّمْعُ شَهَادَةٌ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَمْ يُشْهِدُونِي على شَيْءٍ، وَلَكَنِ سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا.
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: (انْطَلَقَ النَّبيُّ صلعم وأُبيُّ بْنُ كَعْبٍ الأنْصَارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ التي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم طَفِقَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ على فِرَاشِهِ في قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ، أَوْ زَمْزَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبيَّ صلعم وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ لابْنِ صَيَّادٍ: أي صَافِ، هَذَا مُحَمَّدٌ، فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ). [خ¦2638]
          وفيه: عَائِشَةُ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلى النَّبيِّ صلعم فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي، فَأَبَتَّ طَلَاقِي(1)، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، إِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَقَالَ: (أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلى رِفَاعَةَ؟ لا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ). وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَهُ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلا تَسْمَعُ إلى هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ النَّبيِّ صلعم. [خ¦2639]
          اختلف العلماء في شهادة المختبئ، فروي عن شريحٍ والشَّعبيِّ والنخعيِّ أنَّهم كانوا لا يجيزونها، وقالوا: إنَّه ليس بعدلٍ حين اختبأ ممَّن شهد(2) عليه. وهو قول أبي حنيفة والشافعيِّ.
          وذكر الطحاويُّ في «المختصر» قال: جائزٌ للرجل أن يشهد بما سمع، إذا كان معاينًا لمن سمعه منه؛ وإن لم يشهده على ذلك.
          قال الشافعيُّ في «الكتاب الكبير» للمزنيِّ: العلم من ثلاثة وجوهٍ: ما عاينه فشهد به، وما تظاهرت به الأخبار وثبت موقعه في القلوب، وشهادة ما أثبته سمعًا إثبات بصرٍ من المشهود عليه، ولذلك قلنا: لا تجوز شهادة الأعمى.
          وأجاز شهادة المختبئ ابن أبي ليلى ومالكٌ وأحمد وإسحاق، إلَّا أنَّ مالكًا لا يجيزها إلَّا على صحَّة ألَّا(3) يكون المقرُّ مختدعًا ومقررًا على حقٍّ لا يقوله بالبراءة، والمخرج منه ومثله من وجوه الحيل.
          وروى ابن وهبٍ، عن مالكٍ في رجلٍ أدخل رجلين بيتًا، وأمرهما أن يحفظا ما سمعا، وقعد برجلٍ من وراء البيت حتَّى أقرَّ له بما له عليه فشهدا عليه بذلك، فقال: أمَّا الرجل الضعيف أو الخائف أو المخدوع الذي يخاف أن يستجهل أو يستضعف إذا شهد عليه؛ فلا أرى ذلك يثبت عليه، وليحلف أنَّه ما أقرَّ له بذلك إلَّا لما يذكر، وأمَّا الرجل الذي ليس على ما وصفت وعسى أن يقول في خلوته: أنا أقرُّ لك خاليًا، ولا أقرُّ لك عند البيِّنة، فإنَّه يثبت ذلك عليه، وهذا معنى قول ابن حريث: (وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بالْفَاجِرِ الْخائنِ).
          واحتجَّ مالكٌ في «العتبيَّة» بشهادة المختبئ قال: إذا شهد الرجل على المرأة من وراء الستر وعرفها وعرف صورتها وأثبتها قبل ذلك، فشهادته جائزةٌ عليها. قال: وقد كان الناس يدخلون على أزواج النبيِّ صلعم وبينهم وبينهن حجابٌ، فيسمعون منهنَّ، ويحدِّثون عنهنَّ.
          وقد سأل أبو بكر بن عبد الرحمن وأبوه عائشة وأمَّ سلمة من وراء حجابٍ، ثمَّ أخبرا(4) عنهما.
          قال المُهَلَّب: في حديث ابن عمر من الفقه جواز الاحتيال على المستترين بالفسق، وجحود الحقوق، بأن يختفي عليهم حتَّى يسمع منهم ما يستترون به من الحقِّ ويحكم به عليهم، ولكن بعد أن يفهم عنهم فهمًا حسنًا؛ لقوله صلعم: (لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ).
          وهذا حجَّةٌ لمالكٍ، وكذلك في حديث رِفاعة جواز الشهادة على غير الحاضر من وراء الباب والتستُّر(5)؛ لأنَّ خالد بن سعيدٍ سمع قول امرأة رِفاعة عند النبيِّ صلعم وهو من وراء الباب، ثمَّ أنكره عليها بحضرة النبيِّ صلعم وأبي بكرٍ حين دخل إليهما، ولم ينكر ذلك عليه.
          وقال(6) الأبهريُّ: ومن الحجَّة لمالكٍ أيضًا في جواز شهادة المختبئ أنَّ المعرفة بصوت زيدٍ تقع كما تقع بشخصه، وذلك إذا كان قد عرف صوته / وتكرَّر، فجاز له أن يشهد، كما يجوز للأعمى أن يشهد على الصوت الذي يسمعه إذا عرفه.
          قال المُهَلَّب: وفيه إنكار الهجر من القول، إلَّا أن يكون في حقٍّ لابدَّ له من البيان عند الحاكم في الحكم بين الزوجين، فحينئذٍ يجوز أن يتكلَّم به.
          قال غيره: وقول الشَّعبيِّ وغيره: السمع شهادةٌ. قد فسَّره ابن أبي ليلى قال: السمع سمعان إذا قال: سمعت فلانًا يقر على نفسه بكذا أجزته، وإذا قال: سمعت فلانًا يقول: سمعت فلانًا، لم أجزه. وهذا مذهب مالكٍ وأحمد وإسحاق والجمهور، وليس معنى قولهم: إنَّ السمع شهادةٌ أنَّ شهادة المختبئ جائزةٌ؛ لأنَّ القائلين ذلك لا يجيزونها.
          قال ابن المنذر: قال النَّخَعِيُّ والشَّعبيُّ: السمع شهادةٌ وأبيا أن يجيزا شهادة المختبئ.
          وقد تقدَّم شرح ما في حديث ابن صيَّادٍ من اللغة في كتاب الجنائز في باب إذا أسلم الصبيُّ(7). [خ¦1354]
          وقوله: (لَهُ(8) فِيهَا رَمْرَمَةٌ) قال ثابتٌ: ترمرم الرجل: إذا حرَّك فاه للكلام، ولم يتكلَّم. قال بعض الشعراء يصف ملكًا:
إذا تَرمرَمَ أغضى كلُّ جَبَّارٍ
          قال الخطَّابيُّ: قد يكون ترمرم: تحرَّكت مرمته بالصوت. قال الشاعر:
ومُسْتَعْجِبٍ مِمَّا يَرَى مِنْ أَناتِنا                      وَلَوْ زَبَنَتْهُ الحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ
          أي لم ينطق. وقال صاحب «الأفعال»: الرمرمة: كلامٌ لا يفهم. قال أبو حنيفة: الرمرمة من الرعد ما لم يعل أو يفصح، وقد زمزم السحاب، وهو سحابٌ زمزامٌ: إذا كثرت زمزمته.


[1] قوله: ((طلاقي)) زيادة من (ص).
[2] في (ص): ((يشهد)).
[3] في (ص): ((لا يجيزها له على صحة إلا أن)).
[4] في (ص): ((وأخبرا)).
[5] في (ص): ((والستر)).
[6] في (ص): ((قال)).
[7] قوله: ((جائزة؛ لأن القائلين ذلك لا يجيزونها..... في باب إذا أسلم الصبي)) ليس في (ص).
[8] قوله: ((له)) ليس في (ص).