شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف

          ░23▒ باب: يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ
          وَلا يُصْرَفُ مِنْ مَوْضِعٍ إلى غَيْرِهِ
          قَضَى مَرْوَانُ بِالْيَمِينِ على زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ على الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي. فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ وأبى أَنْ يَحْلِفَ على الْمِنْبَرِ، فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْهُ، وَقَالَ النَّبيُّ صلعم: (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ)، ولَمْ يَخُصَّ مَكَانًا دُونَ مَكَانٍ.
          فيه: ابْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ صلعم: (مَنْ حَلَفَ على يَمِينٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالًا، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ). [خ¦2673]
          اختلف العلماء في هذا الباب فقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجب استحلاف أحدٌ عند منبر النبيِّ صلعم ولا بين الركن والمقام في قليل الأشياء ولا كثيرها ولا في الدماء، وإنَّما يحلفون الحكَّام من وجبت عليه اليمين في مجالسهم. وإلى هذا القول ذهب البخاريُّ، وقال مالكٌ: لا يحلف أحدٌ عند منبرٍ إلَّا منبر النبيِّ صلعم ومن أبى أن يحلف عند المنبر(1) فهو كالناكل عن اليمين، ويُجلَب في أيمان القسامة إلى مكَّة من كان من عملها فيحلف بين الركن والمقام، ويجلب إلى المدينة من كان من عملها فيحلف(2) عند المنبر. وهو قول الشافعيِّ.
          ولا يكون اليمين عند مالكٍ في مقطع الحقِّ / في أقلِّ من ثلاثة دراهم قياسًا على القطع، وعند الشافعيِّ في عشرين دينارًا قياسًا على الزكاة، كذلك عند منبر كلِّ مسجدٍ، وروى ابن جُريجٍ عن عِكْرِمَة قال: أبصر عبد الرحمن بن عوفٍ قومًا يحلفون بين المقام والبيت فقال: أَعَلَى دم؟ فقيل: لا. فقال(3): أفعلى عظيم من المال؟ قيل: لا. قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام.
          قال: ومنبر النبيِّ صلعم في التعظيم مثل ذلك؛ لما ورد فيه من الوعيد على من حلف عنده بيمينٍ كاذبةٍ. واحتجَّ أبو حنيفة بأنَّا رُوِّينا عن زيد بن ثابتٍ أنَّه لم يحلف عند(4) المنبر وخالفتموه إلى قول مروان بغير حجَّةٍ. قال: وليس قوله صلعم: ((من حلف على منبري هذا)) يوجب أنَّ الاستحلاف لم يجب.
          واحتجَّ عليه الشافعيُّ فقال: لو لم يعلم زيدٌ أنَّ اليمين عند المنبر سنَّةٌ لأنكر ذلك على مروان، وقال له: لا والله ما أحلف إلَّا في مجلسك. وما كان يمنع أن يقول لمروان ما هو أعظم من هذا لجلالة قدره عنده، وقد أنكر عليه أمر الصكوك وقال له: أتحلُّ الربا يا مروان؟! فقال مروان: أعوذ بالله من هذا. فقال: الناس يتبايعون الصكوك قبل أن يقبضوها. فبعث مروان الحرس ينتزعونها من أيدي الناس. فكذلك كان ينكر عليه اليمين عند المنبر لولا علمه أنَّها السنَّة، وإنَّما كره أن يحلف عند المنبر.
          قال المؤلِّف(5): واليمين عند المنبر بمكَّة والمدينة لا خلاف فيه في قديمٍ ولا حديثٍ، وأنَّ نقل الحديث فيه تكلُّفٌ؛ لإجماع السلف عليه، ولقد بلغني أنَّ عُمَر بن الخطَّاب حلف عند المنبر في خصومةٍ كانت بينه وبين رجلٍ، وأنَّ عثمان رُدَّت عليه اليمين عند المنبر، فافتدى منها وقال: أخاف أن توافق قدرًا فيقال: له(6) بيمينه.
          قال المُهَلَّب: وإنَّما أمر أن يحلف في أعظم موضعٍ من المسجد، ليرتدع أهل الباطل، وهذا مستنبطٌ من قوله ╡: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ}[المائدة:106]، فاشتراطه بعد الصلاة تعظيمًا للوقت وإرهابًا به؛ لشهود الملائكة ذلك الوقت، فخصوصة وقت التعظيم كخصوصة موضع التعظيم، ألا ترى ما ظهر من تهيُّب زيد بن ثابتٍ للموضع، فمن هو دون ذلك من أهل المعاصي الخائفين من العقوبات أولى أن يرهبوا المكان العظيم.


[1] في (ص): ((منبر النبي)).
[2] قوله: ((بين الركن والمقام، ويجلب إلى المدينة من كان من عملها فيحلف)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((قال)).
[4] في (ص): ((على)).
[5] قوله: ((قال المؤلف)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((إنه)).