شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا عدل رجل أحدًا فقال لا نعلم إلا خيرًا

          ░2▒ باب: إِذَا عَدَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا فَقَالَ: لا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا أَوْ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا
          فساق حديث الإفْكِ، حيث قَالَ النَّبيُّ صلعم لأُسَامَةُ فَقَالَ: (أَهْلُكَ وَلا نَعْلَمُ إِلا خَيْرًا). [خ¦2637]
          وقَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَنْ يَعْذِرُنَي في رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ في أَهْلِي، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا).
          اختلف العلماء في قول المسؤول عن التزكية: ما أعلم إلَّا خيرًا، فذكر ابن المنذر عن ابن عمر أنَّه كان إذا أنعم مدح الرجل قال: ما علمنا(1) إلَّا خيرًا.
          وذكر الطحاويُّ عن أبي يوسف أنَّه إذا قال ذاك قبلت شهادته، ولم يذكر خلافًا على(2) الكوفيِّين، واحتجُّوا بالحديث الأوَّل، وقال(3) محمَّد بن سعيدٍ الترمذيُّ: سألني(4) عبد الرحمن بن إسحاق القاضي عن رجلٍ شهد عنده فزكَّيته له، فقال لي: هل تعلم منه إلَّا خيرًا؟ فقلت: اللَّهُمَّ غفرًا، قد أعلم منه غير الخير ولا تسقط بذلك عدالته، يلقي كناسته في الطريق، وليس ذلك من الخير. فسكت.
          وروى ابن القاسم عن مالكٍ: أنَّه أنكر أن يكون قوله: لا أعلم إلَّا خيرًا تزكيةً، وقال: لا تكون تزكيةً حتَّى يقول: رضًا وأراه عدلًا رضًا.
          وذكر المزنيُّ، عن الشافعيِّ قال: لا يقبل في التعديل، إلَّا أن يقول عدلٌ عليَّ ولي، ثمَّ لا يقبله حتَّى يسأله عن معرفته؛ فإن كانت باطنة متقدِّمة وإلَّا لم يقبل ذلك.
          قال الأبهريُّ: والحجَّة لمالكٍ أنَّه قد لا يعلم منه إلَّا الخير، ويعلم غيره منه غير الخير ممَّا يجب به ردُّ شهادته، فيجب أن يقول: أعلمه عدلًا رضًا؛ لأنَّ هذا الوصف الذي أمر الله تعالى بقبول شهادة الشاهد معه بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}[الطلاق:2]{مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء}[البقرة:282]فيجب أن يجمع الشاهد العدالة والرضا.
          قال المُهَلَّب: وأمَّا قول أسامة: لا أعلم إلَّا خيرًا في التزكية، فإنَّ هذا كان في عصر الرسول صلعم الذين شهد الله تعالى لهم أنَّهم خير أمَّةٍ أخرجت للناس، فكانت الجرحة فيهم شاذَّةً نادرةً؛ لأنَّهم كانوا كلُّهم على العدالة، فتعديلهم أن يقال: لا أعلم إلَّا خيرًا، فأمَّا اليوم فالجرحة أعمُّ في الناس، وليست لهم شهادةٌ من كتاب الله ولا من سنَّة رسول الله صلعم بعدالةٍ مستوليةٍ على جميعهم، فافترق حكمهم.
          وفي قول بريرة: ما أعلم عليها شيئًا أغمصه(5)، دليل على أنَّ من اتُّهم في دينه بأمرٍ أنَّه يطلب في سائر أحواله نظير ما اتُّهم به، فإن لم يوجد له نظيرٌ لم يُصدَّق عليه ما اتُّهم فيه، وإن وجد لذلك نظيرٌ قويت الشبهة، وحكم عليه بالتهمة في أغلب الحال لا في الغيب، والله أعلم.


[1] في (ص): ((علمت)).
[2] في (ص): ((عن)).
[3] في (ص): ((قال)).
[4] في (ص): ((سألت)).
[5] في (ص): ((أغمضها)).