شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر}

          ░21▒ بَاب الإِيلاءِ، و(1) قَوْلِ اللهِ تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤُوا} الآية(2)[البقرة:226].
          فيه: أَنَسٌ: (آلى رَسُولُ اللهِ صلعم مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ في مَشْرُبَةٍ لَهُ تِسْعةً(3) وَعِشْرِينَ يومًا، ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، آلَيْتَ شَهْرًا، فَقَالَ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ). [خ¦5289]
          قَالَ ابْن عُمَر في الإيلاءِ الذي سَمَّى اللهُ ╡: لَا يَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدَ الأجَلِ إِلَّا أَنْ يُمْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يَعْزِمَ بِالطَّلاقِ كَمَا أَمَرَ اللهُ تعالى. وَقَالَ أيضًا: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يُوقَفُ حَتَّى يُطَلِّقَ، وَلا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ، وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ وَاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ صلعم. [خ¦5290]
          الإيلاء في لغة العرب اليمين، وفي قراءة أبيِّ بن كعبٍ وابن عبَّاسٍ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ}[البقرة:226]، قالا: ▬يقسمون↨.
          وقال ابن عبَّاسٍ: كلُّ يمينٍ منعت جماعًا فهي إيلاءٌ. وقال ابن المنذر: وهو قول كلِّ من أحفظ عنه من أهل العلم.
          واختلف في الإيلاء المذكور في القرآن، قال ابن المنذر: فروي عن ابن عبَّاسٍ: لا يكون مؤليًا حتَّى يحلف ألَّا يمسَّها أبدًا.
          وقالت طائفةٌ: الإيلاء إنَّما هو آلى حلف ألَّا يطأ أكثر من أربعة أشهرٍ، هذا قول مالكٍ والشافعيِّ وأحمد بن حنبلٍ وأبي ثورٍ، فإن حلف على أربعة أشهرٍ فما دونها لم يكن مؤليًا، وكان هذا عندهم يمينًا محضًا لو وطئ في هذه اليمين حنث ولزمته الكفَّارة، وإن لم يطأ حتَّى انقضت(4) المدَّة لم يكن عليه شيءٌ كسائر الأيمان.
          وقال الثوريُّ والكوفيُّون: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهرٍ فصاعدًا، وهو قول عطاءٍ.
          وقالت طائفةٌ: إذا حلف ألَّا يقرب امرأته يومًا أو أقلَّ أو أكثر ثمَّ لم يطأها أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، روي هذا عن ابن مسعودٍ والنخعيِّ وابن أبي ليلى والحكم، وبه قال إسحاق، واعتلَّ أهل هذه المقالة فقالوا: إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهرٍ فقد صار مؤليًا، ولزمه أن يفيء بعد التربُّص أو يطلِّق؛ لأنَّه قصد الإضرار باليمين، وهذا المعنى موجودٌ في المدَّة القصيرة.
          قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول أكثر أهل العلم، وقالوا: لا يكون الإيلاء أقلَّ من أربعة أشهرٍ. قال ابن عبَّاسٍ: كان إيلاء أهل الجاهليَّة السنة والسنتين وأكثر، فوقَّت الله سبحانه لهم أربعة أشهرٍ، فمن كان إيلاؤه أقلَّ من أربعة أشهرٍ فليس بإيلاءٍ، وليس في حديث أنسٍ إيلاءٌ بأربعة أشهرٍ، وإنَّما فيه أنَّه صلعم حلف ألَّا يجامع نساءه شهرًا، فبرَّ يمينه ونزل لتمامه.
          واحتجَّ الكوفيُّون فقالوا: جعل الله التربُّص في الإيلاء أربعة أشهرٍ، كما جعل في عدَّة الوفاة أربعة أشهرٍ وعشرًا، وفي عدَّة الطلاق ثلاثة قروءٍ، فلا تربُّص بعدها، قالوا: فيجب بعد المدَّة سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلَّا بالفيء وهو الجماع في داخل المدَّة والطلاق بعد انقضاء الأربعة الأشهر.
          واحتجَّ أصحاب مالكٍ فقالوا: جعل الله تعالى للمؤلي تربُّص أربعة أشهرٍ، فهي له بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه(5)، كما أنَّ الدين المؤجَّل لا يستحقُّ صاحبه المطالبة به إلَّا بعد تمام الأجل، وتقدير الكوفيِّين للآية: فإن فاءوا فيهنَّ، وتقدير المدنيِّين: فإن فاءوا بعدهنَّ.
          قال إسماعيل بن إسحاق: لا يخلو التخيير الذي جُعِل للمؤلي في الفيء أو الطلاق أن تكون في الأربعة الأشهر أو بعدها، فإن كان في الأربعة الأشهر فقد نقصوه من الأجل الذي ضربه الله تعالى له، وإن قالوا: بعد الأربعة الأشهر وهو ظاهر كتاب الله تعالى صاروا إلى قولنا، وكذلك قوله تعالى: / {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ(6)}[البقرة:234]، فليس(7) يجوز لها أن تعمل في نفسها شيئًا بالمعروف _وهو التزويج_ إلَّا بعد تمام الأجل الذي ضربه الله سبحانه لها، وكلُّ من أُجِّل له أجلٌ فلا سبيل عليه في الأجل، وإنَّما عليه السبيل بعد الأجل، فنحن وهم مجمعون على صاحب الدَّين أنَّه كذلك، و على العنِّين إذا ضُرِب له أجلٌ سنةً أنَّه(8) لا سبيل عليه قبل تقضي السنة، فإن وطئ من غير أن يؤخذ بذلك سقط عنه حكم العنِّين وإن انقضت السنة(9) ولم يطأ فُرِّق بينه وبين امرأته، فكذلك المؤلي لا سبيل عليه في الأربعة الأشهر، فإن وطئ فيها من غير أن يؤخذ بذلك سقط عنه الإيلاء، وإن لم يطأ حتَّى انقضت أخذه الحاكم بالطلاق، فإن لم يطلِّق فرَّق بينهما الحاكم.
          قال ابن المنذر: وأجمع كلُّ من نحفظ عنه العلم أنَّ الفيء هو الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذرٌ فيجزئه فيؤه بلسانه وقلبه.
          وقال بعضهم: إذا أشهد على فيئه في حال العذر أجزأه.
          وخالف الجماعة سعيد بن جبيرٍ فقال: الفيء: الجماع، لا عذر له إلَّا أن يجامع وإن كان في سفرٍ أو(10) سجنٍ، وأوجب أكثر أهل العلم الكفَّارة عليه إذا فاء بجماع امرأته، وروي هذا عن ابن عبَّاسٍ وزيد بن ثابتٍ، وهو قول النَّخَعِيِّ وابن سيرين ومالكٍ والثوريِّ والكوفيِّين والشافعيِّ وعامَّة العلماء.
          وقالت طائفةٌ: إذا فاء فلا كفَّارة عليه، هذا قول الحسن، وقال النَّخَعِيُّ: كانوا يقولون: إذا فاء فلا كفَّارة عليه.
          وقال إسحاق بن راهويه: قال بعض أهل التأويل في قوله تعالى: {فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة:226]، يعني اليمين الذي حنثوا فيها، وهو مذهبٌ في الأيمان لبعض التابعين، فمن حلف على برٍّ أو تقوًى أو بابٍ من الخير ألَّا يفعله، فإنَّه يفعله ولا كفَّارة عليه، وهو ضعيفٌ تردُّه السُّنَّة الثابتة عن النبيِّ صلعم أنَّه قال(11): ((من حلف على يمينٍ فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خيرٌ وليكفِّر يمينه)).
          وما ذكره البخاريُّ عن ابن عمر أنَّ المؤلي يوقَّف حتَّى يطلِّق، وذكره عن اثني عشر رجلًا من الصحابة، منهم عثمان وعليٌّ، وذكره ابن المنذر عن عمر وعثمان وعليٍّ وعائشة وابن عمر وأبي الدرداء. وقال سليمان بن يسارٍ: كان تسعة عشر رجلًا من أصحاب محمَّدٍ(12) صلعم يوقِّفون في الإيلاء. قال مالكٌ: وذلك الأمر عندنا، وبه قال الليث والشافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ، فإن طلَّق فهي واحدةٌ رجعيَّةٌ، إلَّا أنَّ مالكًا قال: لا تصحُّ رجعته حتَّى يطأ في العدَّة، ولا أعلم أحدًا قاله غيره.
          وقالت طائفةٌ: إذا مضت للمؤلي أربعة أشهرٍ بانت منه امرأته دون توقيفٍ بطلقةٍ بائنةٍ لا يملك فيها الرجعة، وروي عن ابن مسعودٍ وابن عبَّاسٍ وزيد بن ثابتٍ، ورواية عن عثمان وعليٍّ وابن عمر، ذكرها ابن المنذر، وهو قول عطاءٍ والنخعيِّ ومسروقٍ والحسن وابن سيرين، وإليه ذهب الأوزاعيُّ والثوريُّ وجماعة الكوفيِّين.
          وقالت طائفةٌ: هي طلقةٌ يملك فيها الرجعة إذا مضت أربعة أشهرٍ.
          روي عن سعيد بن المسيِّب وأبي بكر بن عبد الرحمن ومكحولٍ والزهريِّ.
          والصواب أن يوقَّف المؤلي؛ لأنَّ الله ╡ جعل له تربُّص أربعة أشهرٍ لا يطالب فيها بالوطء، وجعله بعدها مخيَّرًا في الفيء بالجماع أو إيقاع الطلاق؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. وإن عَزَمُوا الطَّلَاق} الآية(13)[البقرة:226-227]، فمن خيَّره الله في أمرٍ فلا سبيل للافتئات عليه فيه، ودفع ما جعله الله له منه دون إذنه.
          قال الأبهريُّ: والحجَّة لقول مالكٍ أنَّه إذا لم يطأ في العدَّة فلا تصحُّ رجعته، أنَّ الطلاق إنَّما أُوقِع لرفع الضرر، فإذا لم يطأ فالضرر قائم، فلا معنى للرجعة، ومتى ارتجع كانت رجعته معتبرةً بالوطء، فإن وطئ وإلَّا عُلِم أنَّه لم تكن له رجعةٌ إلَّا أن يكون له عذرٌ يمنعه من الوطء فتصحُّ رجعته؛ لأنَّ الضرر قد زال، وامتناعه من الوطء ليس من أجل الضرر، وإنَّما هو من أجل العذر.


[1] في (ص): ((كتاب الإيلاء، باب)).
[2] قوله: (({فَإِنْ فَاؤُوا} الآية)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((تسعًا)).
[4] في (ص): ((تنقضي)).
[5] زاد في (ص): ((فيها)).
[6] في (ص): (({أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ}.. إلى..{بِالْمَعْرُوفِ})).
[7] في (ص): ((فلا)).
[8] قوله: ((أنه)) ليس في (ص).
[9] قوله: ((فإن وطئ من غير أن يؤخذ بذلك سقط عنه حكم العنين وإن انقضت السنة)) ليس في (ص).
[10] زاد في (ص): ((في)).
[11] قوله: ((قال)) ليس في (ص).
[12] في (ص): ((النبي)).
[13] قوله: ((وإن عزموا الطلاق. الآية)) ليس في (ص).