شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الإشارة فِي الطَّلاق والأمور

          ░24▒ بَاب الإِشَارَةِ في الطَّلاقِ وَالأُمُورِ.
          وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لا يُعَذِّبُ اللهُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا، وَأَشَارَ إلى لِسَانِهِ).
          وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: (أَشَارَ النَّبيِّ صلعم إِليَّ، خُذِ الشَّطْرَ).
          وَقَالَتْ أَسْمَاءُ: (صَلَّى النَّبيُّ صلعم في الْكُسُوفِ، فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ وَهي تُصَلِّي، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا إلى أَسْمَاءُ، فَقُلْتُ: آيَةٌ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، أي: نَعَمْ).
          وَقَالَ(1) أَنَسٌ: (أَوْمَأَ النَّبيُّ صلعم بِيَدِهِ إِلى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ).
          وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَوْمَأَ النَّبيُّ صلعم بِيَدِهِ: لا حَرَجَ).
          وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم في الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ: (أحَدٌ مِنْكُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوا).
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (طَافَ النَّبيُّ صلعم على بَعِيرِهِ، وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى على الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ وَكَبَّرَ). [خ¦5293]
          وَقَالَتْ زَيْنَبُ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (فُتِحَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ تِسْعِينَ).
          وفي هذا الباب أحاديث أخر فيها كلِّها إشارة النبيِّ صلعم بيده.
          قال المُهَلَّب: الإشارة إذا فهمت وارتفع الإشكال منها(2) محكومٌ بها، وما ذكره البخاريُّ في الأحاديث من الإشارات في الضروب المختلفة شاهدةٌ بجواز ذلك، وأوكد الإشارات ما حكم النبيُّ صلعم(3) في أمر السوداء حين قال لها: ((أين الله؟)) فأشارت برأسها(4) إلى السماء، فقال: ((أعتقها فإنَّها مؤمنةٌ))، فأجاز الإشارة بالإسلام(5) الذي هو أعظم(6) أصل الديانة، الذي يحقن به الدماء(7) ويمنع المال والحرمة، وتُستَحقُّ به الجنَّة ويُنجَى به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الإشارة عاملةً في سائر الديانة، وهو قول عامَّة الفقهاء.
          روى ابن القاسم، عن مالكٍ أنَّ الأخرس إذا أشار بالطلاق أنَّه يلزمه، وقال الشافعيُّ في الرجل يمرض فيختلُّ لسانه: فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق، وإذا أشار إشارةً تُعقَل أو كتب لزمه الطلاق. وقال أبو ثورٍ في إشارة الأخرس: إذا فهمت عنه تجوز عليه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن كانت إشارته تُعرَف في طلاقه ونكاحه وبيعه، وكان ذلك منه معروفًا فهو جائزٌ عليه، وإن شُكَّ فيها فهي(8) باطلٌ، وليس ذلك بقياسٍ إنَّما هو استحسانٌ، والقياس في هذا أنَّه كلُّه باطلٌ؛ لأنَّه لا يتكلَّم ولا تُعقَل إشارته(9).
          قال ابن المنذر: فزعم أبو حنيفة أنَّ القياس في ذلك أنَّه باطلٌ، وفي ذلك إقرار منه أنَّه حكم بالباطل؛ لأنَّ القياس عنده حقٌ، فإذا حكم بضدِّه وهو الاستحسان فقد حكم بضدِّ الحقِّ، وفي إظهاره القول بالاستحسان(10) وهو ضدُّ القياس دفعٌ منه للقياس الذي هو عنده حقٌّ.
          قال المؤلِّف: وأظنُّ البخاريَّ حاول بهذا(11) الباب الردَّ عليه؛ لأنَّ النبيَّ صلعم حكم بالإشارة في هذه الأحاديث وجعل ذلك شرعًا لأمَّته، ومعاذ الله أن يحكم ◙ في شيءٍ من شريعته التي ائتمنه الله ╡ عليها، وشهد له التنزيل أنَّه قد بلَّغها لأمَّته غير ملومٍ، وأنَّ الدين قد كمل به بما يدلُّ القياس على إبطاله.
          وإنَّما حمل أبا حنيفة على قوله هذا أنَّه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكامٍ مختلفةٍ من الديانة في مواضع يمكن النطق فيها ومواضع لا يمكن، فهي لمن لا يمكنه النطق أجوز وأوكد، إذ لا يمكن العمل بغيرها، وفي أحاديث هذا الباب في قصَّة اليهوديِّ الذي رضخ رأس الجارية فأخذ أوضاحًا لها(12)، قال صاحب «العين»: الوضح حليٌ من فضَّة.
          وقوله في حديث المنفق والبخيل: (إِلَّا(13) مَادَّتْ) قال صاحب «العين»: مادَ الشيء مددًا، تردَّد في عرضٍ، والناقة تمدَّد في سيرها.


[1] في (ص): ((قال)).
[2] في (ص): ((بها)).
[3] زاد في (ص): ((به)).
[4] في (ص): ((بيدها)).
[5] في (ص): ((الإسلام بالإشارة)).
[6] قوله: ((أعظم)) ليس في (ص).
[7] في (ص): ((الدم)).
[8] في (ص): ((فيه فهو)).
[9] في (ص): ((يعقل إشارة)).
[10] في (ز): ((بالإحسان)) والمثبت من (ص).
[11] في (ص): ((في هذا)).
[12] في (ص): ((أوضاحاها)).
[13] في (ص): ((ما)).