شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب حكم المفقود في أهله وماله

          ░22▒ بَاب حُكْمِ الْمَفْقُودِ في أَهْلِهِ وَمَالِهِ
          وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: إِذَا فُقِدَ في الصَّفِّ عِنْدَ الْقِتَالِ تَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ سَنَةً، وَاشْتَرَى ابْنُ مَسْعُودٍ جَارِيَةً، فالْتَمَسَ صَاحِبَهَا سَنَةً، فَلَمْ يَجِدْهُ وَفُقِدَ فَأَخَذَ يُعْطِي الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَنْ فُلانٍ، فَإِنْ أَتَى فَلِي وَعَلَيَّ، وَقَالَ: / هَكَذَا افْعَلُوا بِاللُّقَطَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الأسِيرِ يُعْلَمُ مَكَانُهُ: لا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ، وَلا يُقْسَمُ مَالُهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ خَبَرُهُ، فَسُنَّتُهُ سُنَّةُ الْمَفْقُودِ.
          فيه(1) زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، وَسُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الإبِلِ، فَغَضِبَ وَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، وَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا الْحِذَاءُ وَالسِّقَاءُ، تَشْرَبُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا، وَسُئِلَ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا وَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْرِفُهَا، وَإِلَّا فَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ). [خ¦5292]
          اختلف العلماء في حكم المفقود إذ لم يعرف مكانه وعمي خبره، فقالت طائفةٌ: إذا خرج من بيته وعمي خبره فإنَّ امرأته لا تنكح أبدًا، ولا يفرَّق بينه وبينها حتَّى توقن بوفاته أو ينقضي تعميره، وسبيل زوجته سبيل ماله، روي هذا القول عن عليِّ بن أبي طالبٍ، وهو قول الثوريِّ وأبي حنيفة ومحمَّدٍ والشافعيِّ، وإليه ذهب البخاريُّ _والله أعلم_ لأنَّه بوَّب باب حكم المفقود في أهله وماله، وذكر حديث اللقطة والضالَّة، ووجه الاستدلال في ذلك أنَّ الضالة إذا وجدت ولم يُعلَم ربُّها، فهي في معنى المفقود؛ لأنَّه لا يُعلَم من هو، ولا أين هو؟ فلم يُزِل الجهلُ به وبمكانه ملكَه عن ماله، وبقي محبوسًا عليه، فكذلك يجب أن تكون عصمته باقيةً على زوجته لا يحلُّها إلَّا يقين موته أو انقضاء تعميره، وهذه الزوجيَّة قد ثبتت بالكتاب والسنَّة والاتِّفاق، ولا تحلُّ إلَّا بيقينٍ مثله.
          وقالت طائفةٌ: تتربَّص امرأته أربع سنين، ثمَّ تعتدُّ أربعة أشهرٍ وعشرًا، ثمَّ تحلُّ للأزواج، روي هذا عن عُمَر بن الخطَّاب وعثمان وعليِّ بن أبي طالبٍ وابن عبَّاسٍ وابن عمر(2) وعطاء بن أبي رَبَاح، وإليه ذهب مالكٌ وأهل المدينة، وبه قال أحمد وإسحاق.
          واحتجَّ ابن المنذر لهم فقال: اتِّباع خمسةٍ من أصحاب رسول الله صلعم أولى. قال: وقد دفع أحمد بن حنبلٍ ما روي عن عليِّ بن أبي طالبٍ من خلاف هذا القول وقال: إنَّ راويه أبا عوانة، ولم يتابع عليه.
          فكما وجب تأجيل العنِّين تقليدًا لعمر وابن مسعودٍ، كذلك وجب تأجيل امرأة المفقود؛ لأنَّ العدد الذين قالوا بالتأجيل أكثر وهم أربعةٌ من الخلفاء، وقد قال النَّبيُّ صلعم: ((عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي)).
          واختلفوا إذا فقد في الصفِّ عند القتال، فقال ابن المسيِّب: تؤجَّل امرأته سنةً، وروى أشهب عن مالكٍ أنَّه يُضرَب لامرأته أجل سنةٍ بعد أن ينظر في أمرها، ولا يُضرَب لها من يوم فُقِد، وسواءٌ فُقِد(3) في الصفِّ بين المسلمين أو في قتال المشركين، وروى عيسى، عن ابن القاسم، عن مالكٍ إذا فُقِد في المعترك أو فتن المسلمين بينهم أنَّه ينتظر يسيرًا بمقدار ما ينصرف المنهزم، ثمَّ تعتدُّ امرأته ويقسم ماله.
          وروى ابن القاسم، عن مالكِّ في المفقود في فتن المسلمين أنَّه يُضرَب لامرأته سنةٌ ثمَّ تتزوَّج، واحتجَّ المُهَلَّب لهذا القول بحديث اللقطة؛ لأنَّه حكم فيها ◙ بتعريف سنةٍ.
          وقال الكوفيُّون والثوريُّ والشافعيُّ في الذي يُفقَد بين الصفَّين كقولهم في المفقود: لا يفرَّق بينهما، واتَّفق مالكٌ والكوفيُّون والشافعيُّ في الأسير لا يستبين موته أنَّه لا يفرَّق بينه وبين امرأته، ويوقف ماله وينفق منه عليها.
          قال الأبهريُّ: والفرق بين الأسير والمفقود أنَّ الأسير غير مختارٍ لترك الرجوع إلى زوجته، ولا قاصدٌ لإدخال الضرر عليها، فلم يجز رفع نكاحه، وهو كالذي لا يقدر على الوطء لعلَّةٍ عرضت له، والمفقود فغير معذورٍ بالتأخير عن زوجته، إذ لا سبب له ظاهر يمنعه من ذلك، وحكم زوجة الأسير في النفقة عليها من ماله كامرأة المفقود؛ لأنَّا نقدر أن نوصلها إلى حقِّها من النفقة، سواءٌ غاب أو حضر، ولا خلاف أنَّه لا يفرَّق بين الأسير وزوجته حتَّى يصحَّ موته أو فراقه.
          ومالكٌ / يُعمِّر الأسير الذي تعرف حياته وقتًا، ثمَّ ينقطع خبره فلا يُعرَف له موتٌ، يُعمِّره ما بين السبعين إلى الثمانين، وكذلك يُعمِّر المفقود بين الصفِّين والمفقود الذي فُقِد في غير الحرب، يُعمِّره كذلك أيضًا في قسمة ماله وميراثه، والكوفيُّون يقولون: لا يقسم ماله حتَّى يأتي عليه من الزمان ما لا يعيش مثله، وهذا يشبه قول مالكٍ، وقال الشافعيُّ: لا يقسم ماله حتَّى تعلم وفاته.


[1] في (ص): ((وفيه)).
[2] في (ص): ((ابن عمر)) جاءت بعد قوله:((عثمان))..
[3] قوله: ((وسواء فقد)) ليس في (ص).