شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا قال: فارقتك، أو سرحتك

          ░6▒ بَاب إِذَا قَالَ: فَارَقْتُكِ، أَوْ سَرَّحْتُكِ، أَوِ الْبَرِيَّةُ، أَوِ الْخَلِيَّةُ، أَوْ مَا عُنِي بِهِ الطَّلاقُ فَهُوَ على نِيَّتِهِ.
          وَقَوْلُ اللهِ تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}[الأحزاب:49]، وَقَالَ تعالى: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}[الأحزاب:28]، وَقَالَ تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[البقرة:229]، وَقَالَ تعالى: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}[الطلاق:2].
          وَقَالَتْ عَائِشَةُ: (قَدْ عَلِمَ النَّبيُّ صلعم أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَاني بِفِرَاقِهِ).
          اختلف قول مالكٍ فيمن قال لامرأته: قد فارقتك، أو سرَّحتك، أو خلَّيت سبيلك، فروى عيسى عن ابن القاسم أنَّها كلَّها ثلاثٌ في التي بنى بها إلَّا أن ينوي أقلَّ، فله نيَّته ويحلف، وفي التي لم يبن بها حتَّى ينوي أقلَّ.
          قال ابن الموَّاز: وأصحُّ قوليه في ذلك أنَّها في التي لم يبن بها واحدةٌ إلَّا أن يريد أكثر، وقاله ابن القاسم وابن عبد الحكم. وقال أبو يوسف في قوله: فارقتك، أو خلعتك، أو خلَّيت سبيلك، أو لا ملك لي عليك: أنَّها ثلاثًا ثلاثًا.
          واختلفوا في الخليَّة والبريَّة والبائن، فروي عن عليِّ بن أبي طالبٍ أنَّها ثلاثٌ، وبه قال الحسن البصريُّ، وروي عن ابن عمر في الخليَّة والبريَّة والبتَّة: هي ثلاثٌ، وعن زيد بن ثابتٍ في البريَّة: ثلاثٌ.
          وفيها قولٌ ثانٍ: أنَّ الخليَّة والبريَّة والبائن ثلاثٌ في المدخول بها، هذا قول ابن أبي ليلى. وقال مالكٌ: هي ثلاثٌ في المدخول بها ويُديَّن في التي لم يدخل بها تطليقةً واحدةً أراد أم ثلاثًا، فإن قال: واحدةً، كان خاطبًا من الخطَّاب، وقاله ربيعة.
          وقال الثوريُّ وأبو حنيفة: نيَّته في ذلك، فإن نوى ثلاثًا فهي ثلاثٌ، وإن نوى واحدةً فهي واحدةٌ بائنةٌ، وهي أحقُّ بنفسها، وإن نوى ثنتين فهي واحدةٌ.
          وقال الشافعيُّ: هو في ذلك كلِّه غير مطلِّقٍ حتَّى يقول: أردت بمخرج الكلام منِّي طلاقًا، فيكون ما نوى، فإن نوى دون الثلاث كان رجعيًّا، ولو طلَّقها واحدةً بائنةً كانت رجعيَّةً.
          وقال إسحاق: هو إلى نيَّته يُديَّن.
          وقال أبو ثورٍ: هي تطليقةٌ رجعيَّةٌ، ولا يسأل عن نيَّته في ذلك. وبشبه أن يكون البخاريُّ أشار إلى قول الكوفيِّين والشافعيِّ وإسحاق في قوله: (أَوْ مَا عُنِيَ بِهِ الطَّلاقُ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ). والحجَّة لذلك أنَّ كلَّ كلمةٍ تحتمل أن تكون طلاقًا وغير طلاقٍ، فلا يجوز أن يلزم بها الطلاق إلَّا أن يقرَّ المتكلِّم أنَّه أراد بها الطلاق، فيلزمه ذلك بإقراره، ولا يجوز إبطال النكاح؛ لأنَّهم قد أجمعوا على صحَّته بيقينٍ.
          وقوله: برئت منِّي، أو برئت منك، هو من البريَّة، وكان بعض أصحاب مالكٍ يرى المبارأة من البريَّة ويجعلها ثلاثًا، وتحصيل مذهب مالكٍ أنَّ المبارأة من باب الصلح والفدية والخلع، وذلك كلُّه واحدةٌ عندهم بائنةٌ، والحجَّة لمالكٍ في قوله: قد فارقتك، وسرَّحتك، وخليَّةٌ، وبريَّةٌ، وبائنٌ، أنَّها ثلاثٌ في المدخول بها أنَّ هذه الألفاظ مشهورةٌ في لغة العرب ومستعملةٌ في عرفهم للإبانة وقطع العصمة كالطلاق الثلاث، بل هذه الألفاظ أشهر عندهم وأكثر استعمالًا من قولهم: أنت طالقٌ، ولم يرد الشرع بخلافها، وإنَّما ورد أن يفرِّق عدد الطلاق، فإن ترك ذلك وأوقع الأصل وقع.
          وأمَّا قوله صلعم لعائشة: ((إنِّي ذاكرٌ لك أمرًا، فلا تعجلي حتَّى تستأمري أبويك))، ففيه حجَّةٌ لمن قال: إنَّه إذا خيَّر الرجل امرأته أو ملَّكها، أنَّ لها أن تقضي في ذلك وإن افترقا من مجلسهما، روي هذا عن الحسن والزهريِّ، وقاله مالكٌ، وروي عن مالكٍ أيضًا أنَّ لها أن تقضي ما لم يوقفها السلطان، وكان قول مالكٍ الأوَّل أنَّ اختيارها على المجلس، وهو اختيار ابن القاسم، وهو قول الكوفيِّين والثوريِّ والأوزاعيِّ والليث والشافعيِّ وأبي ثورٍ.
          قال أبو عبيدٍ: والذي عندنا في هذا اتِّباع السنَّة في عائشة في هذا الحديث حين جعل لها التأخير إلى أن تستأمر أبويها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجًا من الأمر.
          وقال المروزيُّ: هذا أصحُّ الأقاويل عندي، وقاله ابن المنذر والطحاويُّ، وبهذا نقول؛ لأنَّ النبيَّ صلعم قد جعل لها الخيار في المجلس وبعده حتَّى تشاور أبويها، ولم يقل: فلا تستعجلي حتَّى تستأمري أبويك في مجلسك.