شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من قال لامرأته: أنت عليَّ حرام

          ░7▒ بَاب مَنْ قَالَ لامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ.
          قَالَ الْحَسَنُ: بِنِيَّتهِ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِذَا طَلَّقَ ثَلاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ فَسَمَّوْهُ حَرَامًا بِالطَّلاقِ وَالْفِرَاقِ وَلَيْسَ هَذَا كالذي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ؛ لأنَّهُ لا يُقَالُ لِلطَعَامِ الْحِلِّ: حَرَامٌ، وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ: حَرَامٌ، وَقَالَ في الطَّلاقِ ثَلاثًا: لا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.
          وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ: (كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلاثًا قَالَ: لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ النَّبيَّ صلعم أَمَرَنِي بِهَذَا، فَإِنْ طَلَّقْتَهَا ثَلاثًا حَرُمَتْ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ).
          فيه عَائِشَةُ: (طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ، فَطَلَّقَهَا، وَكَانَتْ مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ، فَلَمْ تَصِلْ مِنْهُ إلى شَيْءٍ تُرِيدُهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَّقَهَا، فَأَتَتِ النَّبيَّ صلعم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي، وَإني تَزَوَّجْتُ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَدَخَلَ بِي، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ الْهُدْبَةِ، فَلَمْ يَقْرَبْنِي إِلَّا هَنَةً وَاحِدَةً لَمْ يَصِلْ مِنِّي إلى شَيءٍ، أَفَأَحِلُّ) لِزوجِيَ الأوَّلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلعم: (لا تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الأوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ الآخَرُ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ). [خ¦5264]
          اختلف العلماء فيمن قال لامرأته: أنت عليَّ حرامٌ، على ثمانية أقوالٍ سوى اختلاف قول مالكٍ، فقالت طائفةٌ: هي ثلاثٌ، ولا يسأل عن نيَّته، روي ذلك عن عليِّ بن أبي طالبٍ وزيد بن ثابتٍ وابن عمر، وبه قال الحسن البصريُّ في روايته، والحكم بن عُتَيْبة وابن أبي ليلى ومالكٌ، وروي عن مالكٍ وأكثر أصحابه فيمن قال لامرأته قبل أن يدخل بها: أنت عليَّ حرامٌ، أنَّها ثلاث إلَّا أن يقول: نويت واحدةً. وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: هي واحدةٌ، إلَّا أن يقول: أردت ثلاثًا. وقال عبد الملك: لا ينوي فيها، وهي ثلاثٌ على كلِّ حالٍ كالمدخول بها.
          وقولٍ آخر قاله سفيان: إن نوى ثلاثًا فهي ثلاثٌ، وإن نوى واحدةً فهي واحدةٌ بائنةٌ، وإن نوى يمينًا فهي يمينٌ يكفِّرها، وإن لم ينو فرقةً ولا يمينًا فهي كذبةٌ.
          وقولٌ آخر نحو قول الثوريِّ قاله أبو حنيفة وأصحابه، غير أنَّهم قالوا: إن نوى اثنتين فهي واحدةٌ، وإن لم ينو طلاقًا فهي يمينٌ وهو مُؤْلٍ.
          وقولٌ آخر روي عن ابن مسعودٍ: إن نوى طلاقًا فهي تطليقةٌ، وهو أملك بها، وإن لم ينو طلاقًا فهي يمينٌ يكفِّرها، وعن ابن عمر مثله، وبه قال النَّخَعِيُّ وطاوسٌ.
          وقال الشافعيُّ: ليس قوله: أنت عليَّ حرامٌ، بطلاقٍ حتَّى ينويه، فإن أراد الطلاق فهو ما أراد من الطلاق، وإن قال: أردت تحريمًا بلا طلاق، كان عليه كفَّارة يمينٍ. قال الشافعيُّ: وليس بِمُؤْلٍ.
          وقولٌ آخر عن ابن عبَّاسٍ: من قال لامرأته: أنت حرامٌ، لزمته كفَّارة الظهار، وهو قول أبي قِلابة وسعيد بن جبيرٍ، وبه قال أحمد بن حنبلٍ، واحتجَّ ابن عبَّاسٍ بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ}[التحريم:1]، ثمَّ قال: عليه أغلظ الكفَّارات عتق رقبةٍ.
          وقولٌ آخر: أنَّ الحرام يمينٌ تُكَفَّر، روي ذلك عن أبي بكر الصدِّيق وعمر بن الخطَّاب وابن مسعودٍ وعائشة وابن عبَّاسٍ وسعيد بن المسيِّب وعطاءٍ وطاوسٍ وجماعةٍ، وبه قال الأوزاعيُّ وأبو ثورٍ، واحتجَّ أبو ثورٍ بأنَّ الحرام ليس من ألفاظ الطلاق بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ}[التحريم:1]، ولم يوجب به طلاقًا، وكان حرَّم على نفسه ماريَّة، ثمَّ قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}[التحريم:2].
          والقول الثامن: أنَّ تحريم المرأة كتحريم الماء ليس بشيءٍ، ولا فيه كفَّارةٌ ولا طلاقٌ؛ لقوله تعالى: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ}[المائدة:87]، روي ذلك عن الشَّعبيِّ ومسروقٍ وأبي سلمة. قال مسروقٌ: ما أبالي حرَّمت امرأتي أو جفنةً من ثريدٍ. وقال الشَّعبيُّ: أنت عليَّ حرامٌ أهون من نعلي. وقال أبو سلمة: ما أبالي حرَّمتها أو حرَّمت الفرات، وهذا القول شذوذٌ، وعليه بوَّب البخاريُّ هذا الباب _والله أعلم_ وذهب إلى أنَّ من حرَّم زوجته أنَّها ثلاثٌ، والحجَّة لذلك إجماع العلماء أنَّ من طلَّق امرأته ثلاثًا أنَّها تحرم عليه، فلمَّا كانت الثلاث تحريمًا كان التحريم ثلاثًا، وإلى هذه الحجَّة أشار البخاريُّ في حديث رِفاعة؛ لأنَّه طلَّق امرأته وبتَّ طلاقها، فلم تحلَّ له إلَّا بعد زوجٍ، فحرمت عليه مراجعتها بالثلاث تطليقاتٍ، فكذلك من حرَّم على نفسه امرأته كان كمن طلَّقها ثلاثًا، ومن قال: تلزمه كفَّارة الظهار، فليس بالبيِّن؛ لأنَّ الله تعالى إنَّما جعل كفَّارة الظهار للمظاهر خاصَّةً.
          وقال الطحاويُّ: من قال: تلزمه كفَّارة الظهار، كان محمولًا على أنَّه إن أراد الظهار كان ظهارًا، وإن أراد اليمين كان يمينًا مغلَّظةً على ترتيب كفَّارة الظهار: عتق رقبةٍ، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستِّين مسكينًا.
          وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمَّدٌ: لا يكون ذلك ظهارًا، وإن أراده. وأمَّا قول الحسن في الحرام: (لَهُ نِيَّتُهُ)، فهي روايةٌ أخرى ذكرها عبد الرَّزَّاق، عن معمرٍ، عن عَمْرٍو، عن الحسن قال: إن نوى طلاقًا فهي طلاقٌ، وإلَّا فهي يمينٌ، وهو قول ابن مسعودٍ وابن عمر.