شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون

          ░11▒ بَاب الطَّلاقِ في الإغْلاقِ وَالْكُرْهِ(1) وَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ، وَأَمْرِهِمَا، وَالْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ في الطَّلاقِ وَالشَّكِّ وَغَيْرِهِ.
          لِقَوْلِ النَّبيِّ صلعم: (الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)، وَتَلا الشَّعْبِيُّ: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}[البقرة:286]، وَمَا لا(2) يَجُوزُ مِنْ إِقْرَارِ الْمُوَسْوِسِينَ(3).
          وَقَالَ النَّبيُّ صلعم(4) لِلَّذِي أَقَرَّ على نَفْسِهِ بِالزِّنَا(5): (أَبِكَ جُنُونٌ؟)وَقَالَ عَلِيٌّ: (بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَيَّ، فَطَفِقَ النَّبيُّ صلعم يَلُومُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لأبِي؟ فَعَرَفَ النَّبيُّ صلعم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ).
          وَقَالَ عُثْمَانُ: لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلا لِسَكْرَانَ طَلاقٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلاقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ. وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لا يَجُوزُ طَلاقُ الْمُوَسْوِسِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا بَدَأ بِالطَّلاقِ فَلَهُ شَرْطُهُ. وَقَالَ نَافِعٌ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ إِنْ خَرَجَتْ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ خَرَجَتْ بَانَتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ فَلَيْسَ بِشيءٍ. وَقَالَ الزُّهريُّ فِيمَنْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ثَلاثًا: يُسْأَلُ عَمَّا قَالَ، وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ، فَإِنْ سمَّى أَجَلًا أَرَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ جُعِلَ ذَلِكَ في دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ.
          وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنْ قَالَ: لا حَاجَةَ لي فِيكِ، بنِيَّتِهِ(6)، وَطَلاقُ كُلِّ قَوْمٍ بِلِسَانهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا قَالَ: إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاثًا، يَغْشَاهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً، فَإِنِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا، فَقَدْ بَانَتْ. قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، نِيَّتُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّلاقُ عَنْ وَطَرٍ(7)، وَالْعَتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ. وَقَالَ(8) الزُّهْرِيُّ: إِنْ قَالَ: مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِي، نِيَّتُهُ، وَإِنْ نَوَى طَلاقًا فَهُوَ مَا نَوَى. وَقَالَ عَلِيُّ بنُ أبي طَالِبٍ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ. وَقَالَ عَلِيٌّ ☺: كُلُّ طَّلاقِ جَائِزٌ إِلَّا طَلاقَ الْمَعْتُوهِ. وَقَالَ قَتَادَة: إِذَا طَلَّقَ في نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشيءٍ.
          فيه(9): أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ). [خ¦5269]
          وفيه: / جَابِرٌ: (أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبيَّ صلعم وَهُوَ في الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الذي أَعْرَضَ عنه فَشَهِدَ على نَفْسِهِ أَرْبَعًا، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟ هَلْ أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ حَتَّى أُدْرِكَ بِالْحَرَّةِ فَقُتِلَ). [خ¦5270]
          وفيه أَبُو هُرَيْرَةَ مثله إلَّا أنَّه زاد: (فَأَعْرَضَ عَنْهُ أربعًا، فَلَمَّا شَهِدَ على نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَقَالَ: هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا، قَالَ النَّبيُّ صلعم: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ) الحديث.
          تأويل الإغلاق عند العلماء الإكراه، قال أبو عبيدٍ: الإغلاق التضييق، فإذا ضُيِّق على المكره وشُدِّد عليه حتَّى طلَّق لم يقع حكم طلاقه، فكأنَّه لم يطلِّق.
          واختلفوا في طلاق المكره على ما يأتي ذكره في كتاب الإكراه، [خ¦6940] ونذكر منه هاهنا طرفًا، قال مالكٌ والأوزاعيُّ والشافعيُّ: لا يلزم. وقال الكوفيُّون: طلاق المكره لازمٌ.
          واحتجَّ أهل المقالة الأولى بقوله ◙: (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)، وبما رواه الأوزاعيُّ عن عطاءٍ، عن عبيد بن عميرٍ، عن ابن عبَّاسٍ، أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((تجاوز الله لأمَّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))، واحتجُّوا بقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[النحل:106]، فنفى الكفر باللسان إذا كان القلب مطمئنًّا بالإيمان، فكذلك الطلاق إذا لم يرده ولم ينوه بقلبه لم يلزمه، وكذلك قال عطاءٌ: الشرك أعظم من الطلاق.
          وقال الطحاوي: التجاوز معناه العفو عن الإثم؛ لأنَّ العفو عن الطلاق والعتاق لا يصحُّ؛ لأنَّه غير مذنبٍ فيُعفَى عنه، قال: وكما ثبت له حكم الوطء بالإكراه، فيحرم به على الواطئ ابنة المرأة وأمُّها، فكذلك القول لا يمنع من وقوع ما طلَّق.
          واختلفوا في طلاق السكران، فأجازته طائفةٌ ذكره ابن وهبٍ، عن عُمَر بن الخطَّاب ومعاوية بن أبي سفيان وجماعةٍ من التابعين منهم: سعيد بن المسيِّب وسليمان بن يسارٍ وعطاءٌ والقاسم وسالمٌ، وذكره ابن المنذر عن الحسن وابن سيرين والنخعيِّ والشَّعبيِّ، وهو قول مالكٍ وأبي حنيفة والأوزاعيِّ والثوريِّ.
          واختلف فيه قول الشافعيِّ، فأجازه مرَّةً ومنع منه أخرى، وألزمه مالكٌ الطلاق والقود من الجراح والقتل، ولم يلزمه النكاح والبيع.
          وقال الكوفيُّون: أقوال السكران وعقوده كلُّها ثابتةٌ كأفعال الصاحي إلَّا الردَّة، فإذا ارتدَّ فإنَّه لا تبين منه امرأته استحسانًا. وقال أبو يوسف: يكون مرتدًّا في حال سكره. وهو قول الشافعيِّ إلَّا أنَّه لا نقتله في حال سكره ولا نستتيبه.
          وقالت طائفةٌ: لا يجوز طلاق السكران، روي ذلك عن عثمان بن عفَّانٍ وابن عبَّاسٍ وعن عطاءٍ وطاوسٍ والقاسم وربيعة، وهو قول الليث وإسحاق وأبي ثورٍ والمزنيِّ واختاره الطحاويُّ وقال: أجمع العلماء على أنَّ طلاق المعتوه لا يجوز، فالسكران معتوهٌ بسكره كالموسوس معتوهٌ بالوسواس، ولا يختلفون أنَّ من شرب البنج، فذهب عقله أنَّ طلاقه غير جائزٍ، فكذلك من سكر من الشراب.
          ولا يختلف حكم فقدان العقل بسببٍ من الله أو بسببٍ من أجله، ألا ترى أنَّه لا فرق بين من عجز عن القيام في الصلاة بسببٍ من الله تعالى أو من قبل نفسه بأن يكسر(10) رجل نفسه في باب سقوط فرض القيام عنه.
          واحتجَّ أهل المقالة الأولى، وفرَّقوا بين المجنون والسكران، قال عطاءٌ: ليس السكران كالمغلوب على عقله؛ لأنَّ السكران أتى ما أتى وهو يعلم أنَّه يقول ما لا يصلح.
          قال غيره: ألا ترى أنَّ المجنون لا يقضي ما فاته من صلاته في حال جنونه، ويلزم السكران ذلك فافترقا، وذكر ابن المنذر أنَّ بعض أهل العلم ردَّ هذا القول فقال: ليس في احتجاج من احتجَّ أنَّ الصلاة تلزم السكران ولا تلزم المجنون حجَّةٌ؛ لأنَّ الصلاة قد تلزم النائم ولا تلزم المجنون، ولو طلَّق رجلٌ في حال نومه، وطلَّق آخر في حال جنونه، لم يقع طلاق واحدٍ منهما.
          وفي قولهم: إنَّ السكران إذا ارتدَّ لم يستتب في حال سكره ولم يقتل دليلٌ على أن لا حكم لقوله، وردَّ المُهَلَّب هذا القول فقال: معلومٌ في الأغلب من الحال أنَّ السكران إذا طلَّق لم يذهب جميع عقله، والدَّليل على ذلك أنَّه أوقع الطلاق، فقد نطق بكلامٍ مفهومٍ، وقد شرط الله تعالى في حدِّ السكر الذي تبطل الصلاة به وغيرها ألَّا يعلم ما يقول، وهذا المطلِّق يعلم ما يقول، وقصد بالطلاق معنًى معلومًا في السنَّة، واستدللنا أنَّه علم ما قال؛ لأنَّه قاله لمن لا يقال إلَّا له فصحَّ قصده الطلاق، فوجب إلزامه له.
          قال ابن القصَّار: إنَّ شُرب السكران للتداوي جائزٌ، ولا حدَّ في السُّكر منه كما هو في الخمر، فلا يقع طلاقه.
          فيقال لهم: إن شرب الدواء لغير مصلحةٍ، ولكن ليزيل عقله، فإنَّ طلاقه عندنا يقع.
          قال المُهَلَّب: ولا حجَّة لمن لم يجز طلاق السكران في حديث حمزة حين سكر؛ لأنَّ الخمر حينئذٍ كانت مباحةً، فلذلك سقط عنه حكم ما نطق به في حال سكره، وهذه القصَّة كانت سبب تحريم الخمر، فليس يجب أن نحكم بما كان قبل تحريم الخمر على ما كان بعد تحريمها؛ لاختلاف الحكم في ذلك، وقد ذكرت في كتاب الأشربة، في باب ما جاء أنَّ الخمر ما خامر العقل اختلاف العلماء في حدِّ السكر الموجب للحدِّ ما هو. [خ¦5588]
          قال ابن المنذر: وأجمع العلماء على أنَّ طلاق المعتوه والمجنون لا يلزم، وقد احتجَّ في ذلك عليُّ بن أبي طالبٍ في هذا الباب بما فيه مقنعٌ.
          قال مالكٌ: وكذلك المجنون الذي يفيق أحيانًا يطلِّق في حال جنونه، والمبرسم قد رفع عنه القلم لغلبة العلم أنَّه فاسد المقاصد، وأنَّ أفعاله وأقواله مخالفةٌ لرتبة العقل.
          قال المُهَلَّب: ومعنى قوله صلعم: (أبِكَ جُنُونٌ)، يعني: في بعض أوقاتك، ولو أراد أبك جنونٌ الدهر كلَّه ما وثق بقوله أنَّ به جنونًا، وإنَّما معناه: أبك جنونٌ في غير هذا الوقت، فيكون قولك: إنَّك قد زنيت في وقت ذلك الجنون، وإنَّما طلب ◙ شبهةً يدرأ عنه الحدَّ بها؛ لأنَّ المجنون إنَّما يحمل أمره على فقد العقل وفساد المقاصد في وقت جنونه، والسكران أصله العقل، والسكر إنَّما هو طارئٌ على عقله، فما وقع منه من كلامٍ مفهومٍ فهو محمولٌ على أصل عقله حتَّى ينتهي إلى فقدان العقل.
          واختلفوا في الخطأ والنسيان في الطلاق، فقالت طائفةٌ: من حلف على أمر أن لا يفعله بالطلاق ففعله ناسيًا لم يحنث، هذا قول عطاءٍ، وهو أحد قولي الشافعيِّ، وبه قال إسحاق، وروي عن ابن نافعٍ فيمن حلف بالطلاق وهو لا يريده فسبقه لسانه يُديَّن فيما بينه وبين الله ╡، وكذلك قال الشافعيُّ فيمن غلبه لسانه بغير اختيارٍ منه، فقوله كلا قولٍ، ولا يلزمه طلاقٌ ولا غيره.
          وروي عن الشَّعبيِّ وطاوسٍ في الرجل يحلف على الشيء، فيخرج على لسانه غير ما يريد له نيَّته، وحقَّقه أحمد. وقال الحكم: يؤخذ بما تكلَّم به، وممَّن أوجب عليه الحنث مكحولٌ وعمر بن عبد العزيز وقَتادة وربيعة والزهريُّ، وهو قول مالكٍ والثوريِّ والكوفيِّين وابن أبي ليلى والأوزاعيِّ.
          وحجَّة من لم يوجب الحنث عليه قوله صلعم: (الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)، والناسي لا نيَّة له، وقوله صلعم: ((إنَّ الله رفع عن أمَّتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه)).
          واحتجَّ الذين أوجبوا الحنث فقالوا: معنى رفع الخطأ والنسيان إنَّما هو في الإثم بينك وبين الله ╡، وأمَّا في حقوق العباد، فلازمةٌ في الخطأ والنسيان في الدماء والأموال، وإنَّما يسقط في قتل الخطأ ما كان يجب لله تعالى من عقوبةٍ أو قصاصٍ.
          ووقع في كثيرٍ من النسخ <والنِّسيَان في الطَّلاقِ والشِّركِ> وهو خطأٌ، والصواب (والشَّكِّ) مكان <الشرك>.
          واختلف العلماء في الشكِّ في الطلاق، فأوجب الطلاق بالشكِّ مالكٌ، وقال الأوزاعيُّ وسعيد بن عبد العزيز: أفرِّق بالشكِّ ولا أجمع بالشكِّ، وممَّن لم يوجب الطلاق بالشكِّ ربيعة والشافعيُّ وأحمد وإسحاق.
          وقال الشافعيُّ وأحمد وإسحاق: من شكَّ فلم يدر أطلَّق واحدةً أو اثنتين أو ثلاثًا(11) / وجبت عليه واحدةً، وهي عنده حتَّى يستيقن، ولا يجوز عندهم أن يدفع(12) يقين النكاح بشكِّ الحنث، وإلى هذا أشار البخاريُّ.
          وأمَّا قول عطاءٍ: (إِذَا بَدَأَ بِالطَّلَاقِ فَلَهُ شَرْطُهُ)، وقول نافعٍ: (إِذَا(13) طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ البَتَّةَ إِنْ خَرَجَتْ)، وقول الزهريِّ: (فِيمَنْ قَالَ: إِنْ لَم أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ)، فستأتي هذه المسألة في كتاب الطلاق فهو موضعها إن شاء الله تعالى(14).
          وأمَّا قول إبراهيم: (إِنْ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ، نِيَّتُهُ)، فهو قول أصحاب مالكٍ، قالوا: إن أراد بذلك الطلاق لزمه ما أراد منه، وإن لم يرد طلاقًا أُحلف ودُيِّن، وقوله: (طَلَاقُ كُلِّ قَومٍ بِلِسَانِهِم)، فالعلماء مجمعون أنَّ العجميَّ إذا طلَّق بلسانه وأراد الطلاق أنَّه يلزمه؛ لأنَّهم وسائر الناس في أحكام الله سواءٌ.
          وأمَّا قول قَتادة: (إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، يَغْشَاهَا في كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً، فَإِنِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ)، فهو قول ابن الماجِشون، وحكى مثله ابن الموَّاز عن أشهب، قال في قوله: إذا حملت وإذا حضت وإذا وضعت ليس بأجلٍ، ولا شيء عليه حتَّى يكون ما شرط، وهو قول الثوريِّ والكوفيِّين والشافعيِّ، قالوا: وسواءٌ كان ممَّا هو غيبٌ لا يُعلَم أو ممَّا يُعلَم، نحو قوله: إن ولدت وإذا أمطرت السماء وإذا جاء رأس الهلال، فإنَّه لا يقع الطلاق إلَّا بوجود الوقت والشرط.
          وقال ابن القاسم في قوله: (إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ)، لا يمنع من وطئها في ذلك الطهر مرَّةً فقط، ثمَّ يطلِّق إذا وطئها حينئذٍ، ولو كان قد وطئها فيه قبل مقالته طلقت مكانها ويصير كالذي قال لزوجته: إن كنت حاملًا فأنت طالقٌ، وإن لم يكن بك حمل فأنت طالقٌ، فإنَّها تطلق مكانها ولا ينتظر اختبارها أبها حملٌ أم لا، إذ لو ماتا لم يتوارثا، وكذلك قوله لغير حاملٍ: إذا حملت فوضعت فأنت طالقٌ، أو قال: إذا وضعت فقط فأنت طالقٌ، وإن وطئ في ذلك الطهر وإلَّا إذا وطئ مرَّةً طلقت. وقال ابن أبي زيدٍ: اختلف فيه قول مالكٍ.
          وقال الطحاويُّ: لا يختلفون فيمن أعتق عبده، إذا كان هذا لما هو كائنٌ لا محالة أو لما قد يكون، وقد لا يكون أنَّهما سواءٌ ولا يعتق حتَّى يكون الشرط فكذلك الطلاق. وقول الزهريِّ: (إِنْ قَالَ: مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِي، نِيَّتُهُ، فَإِنْ نَوَى طَلاَقًا فَهُوَ مَا نَوَى)، فهو قول مالكٍ وأبي حنيفة والأوزاعيِّ. وقال الليث: هي كذبةٌ. وقال أبو يوسف ومحمَّدٌ: ليس بطلاقٍ.
          وقول قَتادة: (إِذَا(15) طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيسَ بِشَيءٍ)، هو قول جماعة أئمَّة الفتوى، واختلف فيه قول مالكٍ، فذكر عنه ابن الموَّاز أنَّ من اعتقد(16) طلاقًا بقلبه ولم يلفظ به لسانه فإنَّه لا يقع، وهذا الأظهر من مذهبه، وروى عنه أشهب في «العتبيَّة» أنَّها تطلق عليه، وهذا قول ابن سيرين وابن شهابٍ، وقال ابن سيرين: إذا طلَّق في نفسه أليس قد علمه الله ╡، وحجَّة الجماعة قوله صلعم: ((إِنَّ اللهَ تَجاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَم تَعْمَلْ أَو تَكَلَّمْ))، فجعل صلعم ما لم ينطق به اللسان لغوًا لا حكم له، حتَّى إذا تكلَّم به يقع الجزاء عليه ويلزم المتكلِّم به(17).
          وقال ابن المنذر: وكذلك قوله: (الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)، فجعل صلعم الأعمال مقرونةً بالنيَّات، ولو كان حكم من أضمر في نفسه شيئًا حكم المتكلِّم به(18)، كان حكم من حدَّث نفسه في الصلاة بشيءٍ متكلِّمًا، وفي إجماعهم على أنَّ ذلك ليس بكلامٍ مع قوله صلعم: ((من صلَّى صلاةً لا يحدِّث فيها نفسه غفر له))، دليلٌ على أنَّ حديث النفس لا يقوم مقام الكلام، وأجمعوا أنَّ من حدَّث نفسه بالقذف غير قاذفٍ، وكذلك اختلفوا فيمن كتب إلى امرأته بالطلاق من غير لفظٍ به، فأوجب قومٌ الطلاق بالكتابة، هذا قول النَّخَعِيِّ والشَّعبيِّ والحكم والزهريِّ ومحمِّد بن الحسن، واحتجَّ الحكم(19) في أنَّ الكتاب كلامٌ بقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}[مريم:11]، قال: كتب لهم، وهو قول أحمد بن حنبلٍ إذا كتب طلاق امرأته بيده فقد لزمه؛ لأنَّه عمل بيده.
          وقالت طائفةٌ: إن أنفذ الكتاب إليها نفذ الطلاق، روي ذلك عن عطاءٍ والحسن وقَتادة، وقال مالكٌ والأوزاعيُّ: إذا كتب إليها / وأشهد على كتابه، ثمَّ بدا له، فله ذلك ما لم يوجِّه إليها بالكتاب، فإذا وجَّهه فقد طلقت في ذلك الوقت، إلَّا أن ينوي أنَّها لا تطلق عليه حتَّى يبلغ كتابه.
          وقوله: (أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ)، قال صاحب «الأفعال(20) »: أحدقته، يقال: أذلق الرجل غيره أحدقته بطعنةٍ أو حجرٍ يضربه به(21)، وقد تقدَّم تفسير الحرَّة في كتاب الصيام(22).
          وقوله: جمز، يعني: وثب، وفي كتاب «الأفعال»: جَمَز الفرس جَمْزًا وأَجْمَز وثب، فاستعير الجمز للإنسان بمعنى الوثب، وجمز الإنسان أسرع في مشيه.


[1] في (ص): ((المكره)).
[2] قوله: ((لا)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((الموسوس)).
[4] في (ص): ((الرسول)).
[5] قوله: ((بالزنا)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((نيته)).
[7] في (ص): ((وطر)) مكانها بياض.
[8] في (ص): ((قال)).
[9] في (ص): ((وفيه)).
[10] في (ز): ((يشكر)) والمثبت من المطبوع.
[11] في (ص): ((ثلاثة)).
[12] في (ص): ((يرفع)).
[13] قوله: ((إذا)) ليس في (ص).
[14] في (ص): ((فامرأتي طالق، فسيأتي في كتاب الطلاق)).
[15] في (ص): ((فإذا)).
[16] في (ص): ((عقد)).
[17] قوله: ((به)) ليس في (ص).
[18] قوله: ((به)) ليس في (ص).
[19] في (ص): ((واحتج الزهري)).
[20] في (ز): ((العين)) والمثبت من (ص) وبعدها في (ز): ((أخرقته)) والمثبت من كتاب الأفعال لابن القوطية.
[21] في (ص): ((بها)).
[22] سبق في فضائل المدينة باب ما جاء في حرم المدينة [خ¦1869]