شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: {لم تحرم ما أحل الله لك}

          ░8▒ بَاب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ}[التحريم:1].
          فيه ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: (إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21]). [خ¦5266]
          فيه عَائِشَةُ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبيُّ صلعم فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ على إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ: فَقَالَ: لَا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النبيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} إلى: {إِنْ تَتُوبَا إلى اللهِ}[التحريم:4]لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ {وَإِذْ أَسَرَّ النبيُّ إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ}[التحريم:3]بِقَوْلِهِ: شَرِبْتُ عَسَلًا). [خ¦5267]
          أمَّا ما ذكره البخاريُّ عن ابن عبَّاسٍ أنَّه قال: (إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَيسَ بِشَيءٍ) يعني: فليس بتحريمٍ مؤبَّدٍ، وعليه كفَّارة يمينٍ، روى يعلى بن حكيمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ: إذا حرَّم الرجل امرأته فهي يمينٌ يكفِّرها، أما لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ؟ وروي عنه أنَّ عليه كفَّارة الظهار، وقد تقدَّم ذلك في الباب قبل هذا، وتقدَّم فيه مذاهب الفقهاء في هذه المسألة.
          وقال الطحاويُّ: روي في قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ}[التحريم:1]، أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((لن أعود أشرب العسل))، ولم يذكر يمينًا، فالقول هو الموجب للكفَّارة، إلَّا أنَّه يوجب أن يكون قد كان هناك يمينٌ؛ لقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}[التحريم:2]، فدلَّ هذا أنَّه حلف مع ذلك التحريم. قال زيد بن أسلم في هذه الآية: إنَّه حلف ◙ ألَّا يطأ ماريَّة أمَّ ولده، ثمَّ قال بعد ذلك: هي حرامٌ، ثمَّ أمره الله فكفَّر، فكانت كفَّارته ليمينه لا لتحريمه.
          قال ابن المنذر: والأخبار دالَّةٌ على أنَ النبيَّ صلعم كان حرَّم على نفسه شربةً من عسلٍ، وحلف مع ذلك، فإنَّما لزمته الكفَّارة ليمينه لا لتحريمه ما أحلَّ الله له، فلا حجَّة لمن أوجب فيه كفَّارة يمينٍ.
          قال المُهَلَّب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ}[التحريم:1]، هذا فيما لم يشرع فيه التحريم من المطاعم وغيرها والإماء، وأمَّا الزوجات فقد شرع الله التحريم فيهنَّ بالطلاق، وبألفاظ أخر مثل الظهار وغيره، فالتحريم فيهنَّ بأيِّ لفظٍ فُهِم أو عُبِّر عنه لازمٌ؛ لأنَّه مشروعٌ، وغير ذلك من الإماء والأطعمة والأشربة، وسائر ما يملك ليس فيه شرعٌ على التحريم، بل التحريم فيه منهيٌّ عنه؛ لقوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ}[التحريم:1]، وهذه نعمةٌ أنعم الله بها على محمَّدٍ صلعم وأمَّته بخلاف ما كان في سائر الأديان.
          ألا ترى أنَّ إسرائيل حرَّم على نفسه أشياء، وكان نصُّ القرآن يعطي أنَّ من حرَّم على نفسه شيئًا أنَّ ذلك التحريم يلزمه، وقد أحلَّ الله تعالى ذلك الإلزام إذا كان يمينًا بالكفَّارة، فإن لم يكن بيمينٍ لم يلزم ذلك التحريم إنعامًا من الله تعالى علينا وتخفيفًا عنا.
          وكذلك ألزمنا كلَّ طاعةٍ جعلناها لله تعالى على أنفسنا كالمشي إلى بيت الله الحرام، ومسجد الرسول صلعم ومسجد إيلياء وجهاد الثغور والصوم وشبه ذلك ألزمنا هذا، لما فيه لنا من المنفعة، ولم يلزم ما حرَّمناه على أنفسنا، ألا ترى قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}[التحريم:1]، فلم يجعل الله تعالى لنبيِّه صلعم أن يحرِّم إلَّا ما حرَّم الله، {وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[التحريم:1]أي: قد غفر الله لك ذلك التحريم.
          وفيه من الفقه: أنَّ إفشاء السرِّ وما تفعله المرأة مع زوجها ذنبٌ ومعصيةٌ تجب التوبة منه؛ لقوله تعالى: {إِن تَتُوبَا إلى اللهِ}[التحريم:4]، ويحتمل أن يتوبا إلى الله من هذا الذنب، ومن التظاهر عليه في الغيرة والتواطؤ على منعه ما كان يناله من ذلك الشراب.
          وفيه: دليلٌ أنَّ ترك أكل الطيِّبات لمعنًى من معاني الدنيا لا يحلُّ، فإن كان / ورعًا وتأخيرًا لها إلى الآخرة كان محمودًا.
          والمغافير: شبيهٌ بالصمغ تكون في الرِّمْث فيه حلاوةٌ تطيِّب نكهة آكله، يقال: أغفر الرِّمْث إذا ظهر فيه، واحدها مغفورٌ.
          وقال صاحب «العين»: جَرَسَتِ النحل العَسَل تَجْرُسُه جَرْسًا، وهو لحسها إيَّاها.
          والعُرفُط شجر العِضاه، والعِضاهُ كلُّ شجرٍ له شوكٌ، وإذا استيك به كانت له رائحةٌ حسنةٌ تشبه رائحة طيب النبيذ.