شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا يكون بيع الأمة طلاقًا

          ░14▒ بَاب لا(1) يَكُونُ بَيْعُ الأمَةِ طَلاقًا.
          فيه عَائِشَةُ قَالَتْ: (كَانَ في بَرِيرَةَ ثَلاثُ سُنَنٍ: إِحْدَى السُّنَنِ(2) أَنَّهَا أُعْتِقَتْ فَخُيِّرَتْ في زَوْجِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ: الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ / وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَلَمْ(3) أَرَ الْبُرْمَةَ فِيهَا لَحْمٌ؟ قَالُوا: بَلَى، وَلَكِنْ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ على بَرِيرَةَ، وَأَنْتَ لا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، قَالَ: هو عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ). [خ¦5279]
          اختلف السلف هل يكون بيع الأمة وعتقها طلاقًا لها؟ فروي عن عُمَر بن الخطَّاب وعبد الرحمن بن عوفٍ وسعد بن أبي وقَّاصٍ أنَّه لا يكون ذلك طلاقًا لها، وهو مذهب كافَّة الفقهاء.
          وقالت طائفةٌ: بيعها طلاقٌ لها، روي ذلك عن ابن مسعودٍ وابن عبَّاسٍ وأبيِّ بن كعبٍ، ومن التابعين: سعيد بن المسيِّب والحسن ومجاهدٍ، واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء:24]، قال: فحرَّم الله علينا المزوَّجات من النساء، إلَّا إذا ملكتهنَّ أيماننا فهنَّ حلالٌ لنا؛ لأنَّ البيع لها حدوث ملكٍ فيها، فوجب أن يرتفع حكم النكاح، ويبطل دليله(4) الأمة المسبيَّة ذات الزوج.
          وحجَّة الجماعة أنَّ بيعها ليس بطلاقٍ لها: (أَنَّ بَرِيرَةَ عُتِقَتْ فَخُيِّرَتْ فِي زَوجِهَا)، فلو كان طلاقها يقع ببيعها لم يخيِّرها رسول الله صلعم بعد ذلك عند العتق ويقول لها: ((إن شئت أقمت تحته))، وأيضًا فإنَّ هذا عقدٌ على منفعةٍ، فوجب ألَّا يبطله بيع الرقبة، دليله إذا باع رقبةً مستأجرةً؛ لأنَّ النكاح عقدٌ على منفعةٍ والإجارة كذلك، ثمَّ إنَّ البيع لا يبطل الإجارة كذلك لا يبطل النكاح، وأيضًا فإنَّه انتقال ملك رقبة أحد الزوجين من مالكٍ إلى مالكٍ، فوجب ألَّا يبطل النكاح، دليله إذا بيع الزوج، ولمَّا لم يمنع ملك البائع صحَّة النكاح كان ملك المبتاع مثله؛ لأنَّه يقوم مقامَه وهو فرعٌ منه.
          فإن قالوا: إنَّ الأمة الحربيَّة إذا كانت مزوَّجةً فإنَّها إذا استرقَّت تنتقل من ملكٍ إلى ملكٍ، ومع هذا ينفسخ النكاح عندكم.
          فالجواب: أنَّنا(5) إن قلنا: لا ينفسخ على إحدى الروايتين كالحربيَّة إذا سُبِيَت سقط سؤالهم، وإن قلنا: ينفسخ على الرواية الأخرى، فالفرق بينهما أنَّ الحربيَّ لا يملك، وإنَّما له(6) شبهة ملكٍ، فإذا سُبِيَت ومَلكها(7) المسلم ملكًا صحيحًا فليس تنتقل من ملكٍ صحيحٍ، وليست كذلك مسألتنا، ولا حجَّة لهم في الآية أنَّها نزلت في سبي أوطاسٍ خاصَّةً، وتحرَّج بعض أصحاب النبيِّ صلعم من وطئهنَّ خوفًا أن يكون لهنَّ أزواجٌ، فسألوا النبيَّ صلعم عن ذلك، فأنزل الله تعالى الآية.
          فالمراد بها المسبيَّات إذا حضن قبل أن يحضر أزواجهنَّ أو يسلمن(8) معًا، فإنَّه يحلُّ وطؤهنَّ وإن كان لهنَّ أزواجٌ مشركون، فأمَّا إن أسلمن وأسلم أزواجهنَّ معًا، فهنَّ على نكاحهنَّ، وستأتي هذه المسألة في موضعها، إن شاء الله تعالى.
          وفيه: أنَّ الناس على عهد رسول الله(9) صلعم لم يكونوا يستنكرون هديَّة بعضهم لبعضٍ الطعام والشيء الذي يؤكل وما لا يعظم خطره، والدليل على ذلك قوله صلعم: ((لو أهدي إليَّ كراعٌ لقبلت))؛ لأنَّه صلعم لم ينكره(10) من بريرة أن أهدت اللحم ولا أنكر قبول عائشة له.
          وفيه: أنَّ من أهديت إليه هديَّةٌ قلَّت أو كثرت ألَّا يردَّها، فإن أطاق المكافأة عليها(11) فعل، وإن لم يقدر على ذلك أثنى عليه بها وشكرها؛ لما روي عن النبيِّ صلعم في ذلك.


[1] قوله: ((لا)) ليس في (ص).
[2] قوله: ((إحدى السنن)) ليس في (ص).
[3] في (ز): ((لم)) والمثبت من (ص).
[4] في (ص): ((دليله)) مكانها بياض.
[5] قوله: ((أننا)) ليس في (ص).
[6] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[7] في (ص): ((ملكها)).
[8] في (ز): ((أسلمن)) والمثبت من (ص).
[9] في (ص): ((النبي)) وأشار في حاشية (ز) أنها في نسخة.
[10] في (ص): ((لم ينكر)).
[11] قوله: ((عليها)) ليس في (ص).