شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي

          ░20▒ بَاب إِذَا أَسْلَمَتِ الْمُشْرِكَةُ أَوِ النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الذِّمِّيِّ أَوِ الْحَرْبِيِّ.
          وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا أَسْلَمَتِ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا بِسَاعَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ. وسُئِلَ(1) عَطَاءٌ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ أَسْلَمَتْ، ثُمَّ أَسْلَمَ زَوْجُهَا في الْعِدَّةِ، أَهيَ امْرَأَتُهُ؟ قَالَ: لا، إِلَّا أَنْ تَشَاءَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، وَصَدَاقٍ.
          وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا أَسْلَمَ في الْعِدَّةِ يَتَزَوَّجُهَا. قَالَ اللهُ تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[الممتحنة:10].
          وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ في مَجُوسِيَّيْنِ أَسْلَمَا: هُمَا على نِكَاحِهِمَا، فَإِذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا وأبى الآخَرُ بَانَتْ، لا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا.
          وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: (امْرَأَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ جَاءَتْ إلى الْمُسْلِمِينَ، أَيُعَاضُ زَوْجُهَا مِنْهَا؟ لِقَوْلِهِ تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا}[الممتحنة:10]قَالَ: لا، إِنَّمَا كَانَ ذَلكَ بَيْنَ النَّبيِّ صلعم وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَهْدِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا كُلُّهُ في صُلْحٍ بَيْنَ النَّبيِّ صلعم وَبَيْنَ قُرَيْشٍ).
          فيه عَائِشَةُ: (كَانَ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إلى النَّبيِّ صلعم يَمْتَحِنُهُنَّ بقَوْلِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ(2)} إلى آخرِ الآية(3)[الممتحنة:10]، فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ، قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللهِ صلعم: انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ، لا وَاللهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللهِ صلعم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلامِ، ووَاللهِ مَا أَخَذَ النَّبيُّ صلعم على النِّسَاءِ إِلا بِمَا أَمَرَهُ اللهُ، بِقَوْلِهِ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ: قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلامًا). [خ¦5288]
          الذي ذهب إليه ابن عبَّاسٍ وعطاءٌ في هذا الباب أنَّ إسلام النصرانيَّة قبل زوجها فاسخٌ لنكاحها؛ بالعموم(4) قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[الممتحنة:10]، فلم يخصَّ تعالى وقت العدَّة من غيره. وقال ابن عبَّاسٍ: إنَّ الإسلام يعلو ولا يُعلى، / لا يعلو النصرانيُّ المسلمة، وروي مثله عن عُمَر بن الخطَّاب، وهو قول طاوسٍ، وإليه ذهب أبو ثورٍ.
          وقالت طائفةٌ: إذا أسلم في العدَّة يتزوَّجها، هذا قول مجاهدٍ وقَتادة، وبه قال مالكٌ والأوزاعيُّ والشافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو عبيدٍ.
          وقالت طائفةٌ: إذا أسلمت عرض على زوجها الإسلام، فإن أسلم فهما على نكاحهما، وإن أبى أن يسلم فرَّق الإمام بينهما، هذا قول الزهريِّ والثوريِّ، وبه قال أبو حنيفة إذا كانا في دار الإسلام، وأمَّا إن(5) كانا في دار الحرب فأسلمت(6)، ثمَّ خرجت إلى دار الإسلام، فقد بانت منه بافتراق الدارين، وفيها قولٌ آخر يروى عن عُمَر بن الخطَّاب أنَّه خيَّر نصرانيَّةً أسلمت وزوجها نصرانيٌّ، إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت معه. قال ابن المنذر: والقول الأوَّل عندي أصحُّ الأقاويل.
          قال المؤلِّف: وإليه أشار البخاريُّ وقوله تعالى(7): {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[الممتحنة:10]، يعني: ما دام الزوج كافرًا.
          قال ابن المنذر: وأجمع عوامُّ أهل العلم على أنَّ النصرانيَّين إذا أسلم الزوج قبل امرأته أنَّهما على نكاحهما، إذ جائز له(8) أن يبتدئ نكاحها لو لم تكن له زوجةٌ، وكذلك أجمعوا أنَّهما لو أسلما معًا أنَّهما على نكاحهما.
          وأمَّا قول الحسن وقَتادة أنَّ الوثنيِّين إذا أسلما معًا أنَّهما على نكاحهما، فهو إجماعٌ من العلماء.
          واختلفوا إذا سبق أحدهما الآخر بالإسلام، فقالت طائفةٌ: تقع الفرقة بإسلام من أسلم منهما، وقاله غير الحسنِ وقَتادةَ عكرمةُ(9) والحسن وطاوسٌ وعطاءٌ ومجاهدٌ.
          وقالت طائفةٌ: إذا أسلم المتخلِّف منهما عن الإسلام قبل انقضاء عدَّة المرأة فهما على النكاح، هذا قول الزهريِّ والشافعيِّ وأحمد وإسحاق، ولم يراعوا من سبق بالإسلام إذا اجتمع إسلامهما في العدَّة كما كان صفوان بن أميَّة وعكرمة بن أبي جهلٍ أحقَّ بزوجتيهما لمَّا أسلما في العدَّة، واحتجَّ الشافعيُّ بأنَّ أبا سفيان بن حربٍ أسلم قبل امرأته هندٍ، وكان إسلامه بمرِّ الظهران، ثمَّ رجع إلى مكَّة وهندٌ بها كافرةُ، ثمَّ أسلمت بعد أيَّامٍ، فقررا(10) على نكاحهما في الشرك؛ لأنَّ عدَّتها لم تنقض، وكذلك حكيم بن حزامٍ أسلم قبل امرأته، ثمَّ أسلمت بعده، فكانا على نكاحهما.
          وقال مالكٌ والكوفيُّون: إذا أسلم الرجل منهما قبل امرأته تقع الفرقة بينهما في الوقت إذا عرض عليها الإسلام فلم تسلم(11).
          واحتجَّ مالكٌ بقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}[الممتحنة:10]، فلا يجوز التمسُّك بعصمة المجوسيَّة؛ لأنَّ الله لم يرد بالكوافر في هذه الآية أهل الكتاب، بدليل إباحة تزويج نساء أهل الكتاب، فلمَّا كانت المجوسيَّة غير جائزٍ ابتداء العقد عليها، فكذلك لا يجوز التمسُّك بها؛ لأنَّ ما لا يجوز الابتداء عليه(12) لا يجوز التمسُّك به إذا طرأ على النكاح، وذهب مالكٌ إلى أنَّه إن أسلمت الوثنيَّة قبل زوجها، فإن أسلم في عدَّتها فهو أحقُّ بها، وعند الكوفيِّين: يُعرَض على الزوج الإسلام في الوقت كما يُعرَض على المرأة إذا أسلمت، ولم يراعوا انقضاء عدَّةٍ فيها.
          واحتجَّ مالكٌ في اعتبار العدَّة في إسلام المرأة قبل زوجها بما رواه في «الموطَّأ» عن ابن شهابٍ أنَّه قال: لم يبلغنا أنَّ امرأةً هاجرت إلى رسول الله صلعم وزوجها كافرٌ مقيمٌ بدار الحرب، إلَّا فرَّقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلَّا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل أن تنقضي عدَّتها، فهذا من جهة الأثر.
          وأمَّا من جهة القياس فإنَّ إسلامه بمنزلة الارتجاع، فلمَّا كان له الارتجاع في الطلاق، فكذلك إذا أسلم؛ لأنَّ إسلامه فعلةٌ والرجعة فعلةٌ، فاشتبها لهذه العلَّة.
          ولم تجب عند الكوفيِّين مراعاة العدَّة؛ لأنَّ العدَّة إنَّما تكون في طلاقٍ، والكفر فرَّق بينهما وفسخ نكاحهما كالمرتدِّ، ولم يعلموا الآثار التي(13) عند أهل المدينة في اعتبار العدَّة إذا أسلمت المرأة قبل زوجها.
          قال ابن المنذر: واحتجَّ أهل المقالة الأولى في أنَّ النكاح يفسخ بالإسلام إذا أسلم بقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}[الممتحنة:10]، قالوا: فكلُّ امرأةٍ لا يجوز للمسلم ابتداء عقد نكاحها فلا يجوز له أن يتمسَّك بذلك النكاح، ولا يرجع إليه في عدَّةٍ ولا غير عدَّةٍ إلَّا بنكاح مستأنفٍ؛ لأنَّ الله تعالى إنَّما حرَّم على المشركين نكاح المسلمات، ونهى المسلمين عن نكاح المشركات، فكان ابتداؤه في معنى استدامته. /
          وقول عطاءٌ ومجاهدٌ: إذا جاءت امرأةٌ من المشركين إلى المسلمين أنَّه لا يعطى زوجها المشرك عوض صداقها؛ لأنَّ ذلك إنَّما كان في عهد بين النبيِّ صلعم وبين المشركين، وعلى ذلك انعقد الصلح بينهم، ولو كانوا أهل حربٍ للنَّبِيِّ صلعم لم يجز ردُّ شيءٍ ممَّا أنفقوا إليهم، وكذلك قال الشَّعبيُّ في قوله تعالى: {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إلى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ}[الممتحنة:11]، قال: هي منسوخةٌ.


[1] في (ص): ((سئل)).
[2] وأتم الأية في (ص) بقوله: ((اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ)).
[3] قوله: ((إلى آخر الآية)) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((لعموم)).
[5] في (ص): ((إذا)).
[6] في (ص): ((ثم أسلمت)).
[7] في (ص): ((في قوله)).
[8] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((وعكرمة)).
[10] في (ص): ((فقرا)).
[11] قوله: ((فلم تسلم)) ليس في (ص).
[12] في (ص): ((ما لا يجوز ابتداء العقد عليه)).
[13] في (ز) و(ص): ((الذي)) والمثبت من المطبوع.