شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}

          ░18▒ بَاب قَوْلِ اللهِ ╡: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} الآية[البقرة:221].
          فيه ابْنُ عُمَرَ: (كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ النَّصْرَانِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ، قَالَ: إِنَّ اللهَ حَرَّمَ(1) الْمُشْرِكَاتِ على الْمُؤْمِنِينَ، وَلا أَعْلَمُ مِنَ الإشْرَاكِ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبُّهَا: عِيسَى، وَهُوَ عَبْدٌ / مِنْ عِبَادِ اللهِ). [خ¦5285]
          وذهب جمهور العلماء(2) إلى أنَّ الله تعالى حرَّم نكاح المشركات بقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}[البقرة:221]، ثمَّ استثنى من هذه الجملة نكاح نساء أهل الكتاب، فأحلَّهنَّ في سورة المائدة في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}[المائدة:5]، وبقي سائر المشركات على أصل التحريم.
          قال أبو عبيدٍ: روي هذا القول عن ابن عبَّاسٍ، وبه جاءت الآثار عن الصحابة والتابعين وأهل العلم بعدهم أنَّ نكاح الكتابيَّات حلالٌ، وبه قال مالكٌ والأوزاعيُّ والثوريُّ والكوفيُّون والشافعيُّ وعامَّة العلماء(3).
          وقال غيره: ولا يروى خلاف ذلك إلَّا عن ابن عمر فإنَّه(4) شذَّ عن جماعة الصحابة والتابعين، ولم يجز نكاح اليهوديَّة والنصرانيَّة، وخالف ظاهر قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}[المائدة:5]، ولم يلتفت أحدٌ من العلماء إلى قوله.
          قال أبو عبيدٍ: والمسلمون اليوم على الرخصة في نساء أهل الكتاب، ويرون أنَّ التحليل هو الناسخ للتحريم، وقد(5) تزوَّج عثمان بن عفَّان بنائلة بنت الفُرافِصة الكلبيَّة _وهي نصرانيَّةٌ_ تزوَّجها على نسائه، وتزوَّج طلحة بن عبيد الله يهوديَّةً، وتزوَّج حذيفة يهوديَّةً وعنده حرَّتان مسلمتان، وقد روي عن عُمَر بن الخطَّاب أنَّه كان يأمر بالتنزُّه عنهنَّ من غير أن يحرِّمهنَّ.
          قال أبو عبيدٍ: حدَّثنا محمَّد بن يزيد، عن الصَّلْت بن بَهْرَام، عن شقيق بن سلمة، قال: تزوَّج حذيفة يهوديَّةً، فكتب إليه عمر: أن خلِّ سبيلها، فقال: أحرام هي؟ فكتب إليه عمر: لا، ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات منهم، يعني: الزواني، فيرى أنَّ عمر ذهب إلى قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}[المائدة:5].
          فنقول: إنَّ الله تعالى إنَّما شرط العفائف منهنَّ، وهذه لا يؤمن أن تكون غير عفيفةٍ، والذي عليه جماعة العلماء(6) في قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}[البقرة:221]، أنَّ المراد بالآية تحريم الوثنيَّات والمجوسيَّات، وأنَّه لم ينسخ تحريمهنَّ كتابٌ ولا سنَّةٌ.
          وشذَّ أبو ثورٍ عن الجماعة، فأجاز مناكحة المجوس وأكل ذبائحهم، وهو محجوجٌ بالجماعة والتنزيل، وأمَّا الحربيَّات فروى مجاهدٌ، عن ابن عبَّاسٍ، أنَّه قال: لا يحلُّ نكاح(7) نساء أهل الكتاب إذا كانوا حربًا، وتلا قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية[التوبة:29]، وبه قال الثوريُّ، واتَّفق مالكٌ وأبو حنيفة وأصحابه والشافعيُّ أنَّ نكاح الحربيَّات في دار الحرب حلالٌ، إلَّا أنَّهم كرهوا ذلك من أجل أنَّ المقام له ولذرِّيَّته في دار الحرب حرامٌ عليه؛ لئلَّا يجري عليه و على ولده حكم أهل الشرك.
          واختلفوا في نكاح إماء أهل الكتاب، فقال مالكٌ والأوزاعيُّ والليث(8) والشافعيُّ: لا يحلُّ نكاح أمةٍ يهوديَّةٍ ولا نصرانيَّةٍ؛ لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}[المائدة:5]، قال: فهنَّ الحرائر من اليهوديَّات والنصرانيَّات، وقال: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}[النساء:25]، فقال مالكٌ: وإنَّما أحلَّ نكاح الإماء المؤمنات(9) ولم يحلِّل نكاح إماء أهل الكتاب.
          وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بنكاح إماء أهل الكتاب؛ لأنَّ الله تعالى قد أحلَّ الحرائر منهنَّ والإماء تبعٌ لهنَّ، والحجَّة عليهم نصُّ التنزيل الذي احتجَّ به مالكٌ.
          وأجمع أئمَّة الفتوى أنَّه لا يجوز وطء أمةٍ مجوسيَّةٍ بملك اليمين، وأجاز ذلك طائفةٌ من التابعين، وقالوا: لأنَّ سبي أوطاسٍ وُطِئنَ ولم يُسلِمن، وقد تقدَّم ردُّ هذا القول في كتاب الجهاد(10)، فأغنى عن إعادته.


[1] زاد في (ص): ((نكاح)).
[2] في (ص): ((الفقهاء)).
[3] في (ص): ((الفقهاء)).
[4] في (ص): ((أنه)).
[5] في (ص): ((فقد)).
[6] في (ص): ((الفقهاء)).
[7] قوله: ((نكاح)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((والليث والأوزاعي)).
[9] قوله: ((فقال مالك: وإنما أحل نكاح الإماء المؤمنات)) ليس في (ص).
[10] بل تقدم في العتق [خ¦2543].