شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب اللعان، ومن طلق بعد اللعان

          ░29▒ بَاب اللِّعَانِ وَمَنْ طَلَّقَ فِيهِ.
          فيه سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ: (أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلانِيَّ جَاءَ إلى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الأنْصَارِيِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لي يَا عَاصِمُ رَسُولَ اللهِ صلعم عَنْ ذَلِكَ، فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللهِ صلعم عَنْ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلعم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، حَتَّى كَبرَ عَلى عَاصِمٍ مَا سَمعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلعم فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إلى أَهْلِهِ، جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ، فَقَالَ: يَا عَاصِمُ، مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللهِ صلعم؟ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلعم الْمَسْأَلَةَ التي سَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللهِ لا أَنْتَهي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللهِ صلعم وَسَطَ النَّاسِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وفي صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا، فقَالَ(1) سَهْلٌ: فَتَلاعَنَا، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلعم، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاعُنِهِمَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم). [خ¦5308]
          قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلاعِنَيْنِ.
          في قول عُوَيْمِرٍ: (أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟)وسكوت النَّبيِّ صلعم على ذلك ولم يقل له: لا نقتله، دليلٌ على أنَّ من قتل رجلًا وجده مع امرأته أنَّه يقتل به إن لم يأت ببيِّنة تشهد بزناه بها.
          قال الطبريُّ: وبذلك حكم عليُّ بن أبي طالبٍ إن لم يأت بأربعة شهداء، فليعط بِرُمَّتِه.
          فإن قيل: فقد(2) روي عن عمر وعثمان أنَّهما أهدرَا دمه، قيل: إن صحَّ عنهما ذلك فإنَّما أهدرا دمه؛ لأنَّ البيِّنة قامت / عندهما بصحَّة ما ادَّعاه(3) القاتل على الذي قتله، وسيأتي بيان ما للعلماء في هذه المسألة في كتاب الحدود، إن شاء الله تعالى. [خ¦6846]
          وفيه: أنَّ التلاعن لا يكون إلَّا عند السلطان، أو عند من استخلفه من الحكَّام، وهذا إجماعٌ من العلماء.
          وفي قول عُوَيْمِر: (أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا)، دليلٌ أنَّ اللعان بين كلِّ زوجين؛ لأنَّه لم يُخَصَّ رجلٌ(4) من رجلٍ، ولا امرأةٌ من امرأةٍ، وكذلك قال(5) تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}[النور:6]، ولم يخصَّ(6) زوجًا من زوجٍ، ففي هذا حجَّةٌ لمالكٍ والشافعيِّ أنَّ العبد بمنزلة الحرِّ في قذفه ولعانه، غير أنَّه لا حدَّ على من قذف مملوكًا(7)؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}[النور:4]، وهنَّ الحرائر المسلمات، والأمة المسلمة والحرَّة اليهوديَّة أو النصرانيَّة تُلاعن الحرَّ المسلم، وكذلك العبد وإن تزوج الحرَّة المسلمة والأمة المسلمة أو الحرَّة اليهوديَّة أو النصرانيَّة لاعنها، وبه قال الشافعيُّ، وقال أبو حنيفة والثوريُّ: إذا كان أحد الزوجين مملوكًا أو ذمِّيًّا أو كانت المرأة ممَّن لا يجب على قاذفها الحدُّ، فلا لعان بينهما إذا قذفها.
          واختلف العلماء في صفة الرمي الذي يوجب اللعان بين الزوجين، فقال مالكٌ في المشهور عنه: إنَّ اللعان لا يكون حتَّى يقول الرجل لامرأته: رأيتها تزني، أو ينفي حملًا بها، أو ولدًا منها، وحديث سهلٍ هذا وإن لم يكن فيه تصريحٌ بالرؤية، فإنَّه قد جاء التصريح بذلك في حديث ابن عبَّاسٍ وغيره في قصَّة هلال بن أميَّة: أنَّه وجد مع امرأته رجلًا، فقال: يا رسول الله، رأيت بعيني وسمعت بأذني، فنزلت آية اللعان، ذكره المصنِّفون، وذكره الطبريُّ.
          وقال الثوريُّ والكوفيُّون والأوزاعيُّ والشافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ: إنَّه من قال لزوجته: يا زانية، وجب اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، وسواء قال لها: يا زانية أو زنيت، ولم يدَّعي رؤيةً. وقد روي هذا القول عن مالكٍ أيضًا، وحجَّة هذا القول عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}[النور:6]، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}[النور:4]، فأوجب بمجرَّد القذف الحدَّ على الأجنبيِّ إن لم يأت بأربعة شهداء، وأوجب على الزوج اللعان إن لم يأت بأربعة شهداء، فسوَّى بين الرَّمْيَين بلفظٍ واحدٍ، وقد أجمعوا أنَّ الأعمى يلاعن ولا تصحُّ منه الرؤية، وإنَّما يصحُّ لعانه من حيث يصحُّ وطؤه لزوجته، وقد ذكر ابن القصَّار عن مالكٍ أنَّ لعان الأعمى لا يصحُّ إلَّا أن يقول: لمست فرجًا في فرجها.
          وذهب جمهور العلماء إلى أنَّ تمام اللعان منها تقع الفرقة بينهما، وسيأتي بيان هذه المسألة في بابها بعد هذه المسألة، إن شاء الله تعالى(8). [خ¦5313]
          وشذَّ قومٌ من أهل البصرة منهم عثمان البَتِّيُّ، فقالوا: لا تقع الفرقة ولا تأثير للعان فيها، وإنَّما يسقط النسب والحدُّ وهما على الزوجيَّة كما كانا حتَّى يُطلِّق الزوج، وذكر الطبريُّ أنَّ هذا قول جابر بن زيدٍ، واحتجَّ أهل هذه المقالة بقول عُوَيْمِرٍ: (كَذَبْتُ عَلَيهَا إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا)، قالوا: ولم ينكر النبيُّ صلعم ذلك عليه ولم يقل له: لم قلت وأنت لا تحتاج إليه؟ لأنَّها باللعان قد طلقت.
          فقال لهم مخالفوهم: لا حجَّة لكم في حديث عُوَيْمِرٍ؛ لأنَّ قوله: (كَذَبْتُ عَلَيهَا إِنْ أَمْسَكْتُهَا) وطلاقه لها ثلاثًا إنَّما كان منه؛ لأنَّه لم يظنَّ أنَّ الفرقة تحصل باللعان، ولو كان عنده أنَّ الفرقة تحصل باللعان لم يقل هذا، وقد جاء في حديث ابن عمر وابن عبَّاسٍ بيان هذا أنَّ النبيَّ صلعم فرَّق بين المتلاعنين، وقال صلعم: ((لا سبيل لك عليها))، فطلاق عُوَيْمِرٍ لها لغوٌ، ولم ينكر ذلك النبيُّ صلعم؛ لأنَّه يحتمل أن يكون العجلانيُّ أراد التأكيد، أي أنَّها لو لم تقع الفرقة وأمسكتها فهي طالقٌ ثلاثًا.
          قال الطحاويُّ: فإن قال من يذهب إلى قول البَتِّيِّ: قول ابن عمر وابن عبَّاسٍ أنَّ النبيَّ صلعم فرَّق بين المتلاعنين، إنَّما كان في قصَّة عُوَيْمِرٍ، وكان طلاقها بعد اللعان، فكذلك(9) فرَّق بينهما، وقد روى ابن شهابٍ عن سهل بن سعدٍ قال: فطلَّقها العجلانيُّ / ثلاث تطليقاتٍ، فأنفذه رسول الله صلعم.
          قال الطبريُّ: يحتمل أن يكون النبيُّ صلعم فرَّق بينهما بعد اللعان، ثمَّ طلَّقها ثلاثًا حتَّى يكون تفريق النبيِّ صلعم واقعًا موقعه على ما روى ابن عمر. وقد قال الأكثر: لا يجوز أن يمسكها ويُفرَّق بينهما، وقد استحبَّ النبيُّ صلعم الطلاق بعد اللعان، ولم يستحبَّه قبله، فعلم أنَّ اللعان قد أحدث حكمًا.
          وقد احتجَّ من قال: إنَّ الطلاق الثلاث مجتمعاتٍ تقع للسنَّة بطلاق عُوَيْمِرٍ زوجته ثلاثًا، ولم ينكر ذلك عليه رسول الله صلعم، قالوا: ولو كان وقوع الثلاث مجتمعاتٍ لا يجوز لبيَّنه رسول الله صلعم وأنكره وقال: لا يجوز ذلك في ديننا.


[1] في (ص): ((قال)).
[2] في (ص): ((قد)).
[3] في (ص): ((ادعى)).
[4] في (ص): ((رجلًا)).
[5] في (ص): ((قوله)).
[6] في (ص): ((ويخص)).
[7] في (ص): ((مملوكته)).
[8] قوله: ((في بابها بعد هذه المسألة، إن شاء الله تعالى)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((فلذلك)).