شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق؟

          ░3▒ بَاب هَلْ يُوَاجِهُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالطَّلاقِ.
          فيه عَائِشَةُ: (أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ على رَسُولِ اللهِ صلعم وَدَنَا مِنْهَا، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهَا: لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ). [خ¦5254]
          وفيه أَبُو أُسَيْدٍ قَالَ: (لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبيِّ صلعم قَالَ: هَبِي نَفْسَكِ لي، قَالَتْ: وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِسوقَةِ؟ قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، فَقَالَ: قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: يَا أَبَا أُسَيْدٍ، اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ، وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا). [خ¦5255]
          قال يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ لابْنِ عُمَرَ: (رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَ: أتَعْرِفُ ابْنَ عُمَرَ؟ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهي حَائِضٌ) الحديث. [خ¦5258]
          مواجهة الرجل أهله بالطلاق جائزٌ له لحديث عائشة، وفي حديث أبي أسيدٍ أنَّه صلعم أمره أن يكسوها ويلحقها بأهلها، وليس فيه مواجهته لها ◙ بالطلاق، وكلا الأمرين سواءٌ غير أنَّ ترك مواجهة المرأة بالطلاق أرفق وألطف وأيسر في مراعاة ما جعل الله تعالى بين الزوجين من المودَّة والرحمة.
          قال الزجَّاج: خلق الله حواء من ضلع آدم، وجعل بين الرجل والمرأة المودَّة / والرحمة.
          قال المُهَلَّب: وأمَّا أمره ◙ أن تُكسَى فهي المتعة التي أمر الله بها للمطلَّقة غير المدخول بها، وسيأتي مذاهب العلماء فيها(1) بعد هذا إن شاء الله تعالى.
          وقوله للرجل: (أتَعْرِفُ ابْنَ عُمَرَ؟) وهو يخاطبه، إنَّما هو تقريرٌ على أصل السنَّة وعلى ناقلها؛ لأنَّه لازمٌ للعامَّة الاقتداء بمشاهير أهل العلم، فقرَّره على ما يلزمه من ذلك لا أنَّه ظنَّ أنَّه يجهله(2)، وقد قال مثل هذا لرجلٍ سأله عن أمِّ الولد، فقال(3): أتعرف أبا حفصٍ أو عمر، يريد أباه، ولا خفاء به، ثمَّ أخبره بقضيَّته في أمِّ الولد إلزامًا له حكمه فيها بإمامته في الإسلام، لا(4) على أنَّ السائل كان يجهل عمر.
          قال ابن المنذر: واختلفوا في قوله: (الْحَقِي بِأَهْلِكِ)، وحبلك على غاربك، ولا سبيل لي عليك، وما أشبه ذلك من كنايات الطلاق، فقالت طائفةٌ: ينوي في ذلك، فإن أراد طلاقًا كان طلاقًا، وإن لم يرده لم يلزمه شيءٌ، هذا قول الثوريِّ وأبي حنيفة قالا: إلَّا إن نوى واحدةً أو ثلاثًا، فهو ما نوى، وإن نوى ثنتين فهي واحدةٌ؛ لأنَّها كلمةٌ واحدةٌ ولا تقع على اثنتين.
          وقال مالكٌ في قوله: (الْحَقِي بِأَهْلِكِ) إن أراد به الطلاق فهو ما نوى واحدةً أو اثنتين أو ثلاثًا، وإن لم يرد طلاقًا فليس بشيءٍ.
          وقال الحسن والشَّعبيُّ: إذا قال لها: (الْحَقِي بِأَهْلِكِ)، ولا سبيل لي عليك، والطريق لك واسعٌ، إن كان نوى به طلاقًا فهي واحدةٌ وهو أحقُّ بها، وإن لم ينو طلاقًا فليس بشيءٍ.
          وروي عن عمر وعليٍّ في قوله: حبلك على غاربك، أنَّهما حلفاه عند الركن على ما أراد وأمضياه، وهو قول أبي حنيفة، وكذلك كلُّ كلامٍ يشبه الفرقة ممَّا أراد به الطلاق، فهو مثل ذلك كقولهم: حبلك على غاربك، وقد خليت سبيلك، ولا ملك لي عليك، واخرجي، واستتري، وتقنَّعي، واعتدِّي.
          وقال مالكٌ: لا ينوي أحدٌ في: حبلك على غاربك؛ لأنَّه لا يقوله أحدٌ، وقد بقي من الطلاق شيئًا، ولا يلتفت إلى نيَّته إن قال: لم أرد طلاقًا.
          وقال الطحاويُّ: هذا الحديث أصلٌ في الكنايات عن الطلاق؛ لأنَّ النبيَّ صلعم قال لابنة الجون حين طلَّقها: (الْحَقِي بِأَهْلِكِ)، وقد قال كعب بن مالكٍ لامرأته: الحقي بأهلك، حين أمره رسول الله باعتزالها، فلم يكن ذلك طلاقًا، فدلَّ خبر كعب بن مالكٍ على أنَّ هذه اللفظة مفتقرةٌ إلى النيَّةِ، وأنَّه(5) من قال لامرأته: الحقي بأهلك، فإنَّه لا يقضى فيه إلَّا بما ينوي اللافظ بها، وإن لم ينو طلاقًا فليست(6) بطلاقٍ، وهذا قول مالكٍ والكوفيِّين والشافعيِّ.
          قال غيره: فكذلك سائر الكنايات المحتملات للفراق وغيره.
          وقال ابن حبيبٍ: قال ابن القاسم وابن الماجِشون ومطرِّف: الكنايات المحتملات للطلاق وغيره أن يقول لامرأته: اجمعي عليك ثيابك، ولا حاجة لي بك، ولا نكاح بيني وبينك، ولا سبيل لي عليك، ولست منِّي بسبيلٍ(7)، أو اذهبي لا ملك لي عليك، أو لا تحلِّين لي(8)، أو احتالي لنفسك، أو أنت سائبةٌ، أو منِّي عتيقةٌ، أو ليس بيني وبينك حلالٌ ولا حرامٌ، أو لم أتزوَّجك، أو استتري عنِّي، أو تقنَّعي، أو لست لي بامرأةٍ، أو لا تكوني لي بامرأةٍ حتَّى تكون أمُّه امرأته، أو يا طالقة، أو اعتزلي، أو تأخرِّي عنِّي، أو اخرجي، وشبه ذلك، فكلُّه سواءٌ بنى بها أو لم يبن لا شيء عليه إلَّا أن ينوي طلاقًا، فله ما نوى بعد أن يحلف على ذلك.
          قال غيره: والأصل أنَّ العصمة متيقَّنةٌ، فلا تزول إلَّا بقصدٍ ونيَّةٍ(9)؛ لقوله صلعم: ((الأعمال بالنِّيَّات)).
          وأمَّا الألفاظ التي ليست من ألفاظ الطلاق، ولا يكنى بها عنه، فأكثر العلماء لا يوقعون بها طلاقًا، وإن قصده القائل.
          وقال مالكٌ: كلُّ من أراد الطلاق بأيِّ لفظٍ كان لزمه الطلاق حتَّى بقوله: كلي، واشربي، وقومي، واقعدي، ونحوه، والحجَّة له أنَّ الله تعالى جعل الرمز وهو الإيماء(10) كالكلام في الكناية به عن المراد به(11): {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا}[آل عِمْرَان:41]، وكما كان ما فعله المتلاعنان من تلاعنهما وتفرُّقهما طلاقًا، وإن لم يلفظ به، وكذلك روي في المختلعة لمَّا ردَّت عليه الحديقة فأخذها(12) كان طلاقًا.


[1] قوله: ((مذاهب العلماء فيها)) ليس في (ص).
[2] قوله: ((يجهله)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((فقال)) ليس في (ص).
[4] قوله: ((لا)) ليس في (ص).
[5] في (ص): ((وأن)).
[6] في (ص): ((فليس)).
[7] قوله: ((ولست مني بسبيل)) ليس في (ص).
[8] قوله: ((لي)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((بنية وقصد)).
[10] في (ص): ((الإشارة)).
[11] في (ص): ((بقوله)).
[12] قوله: ((فأخذها)) ليس في (ص).