شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت

          ░7▒ بَابُ: تَقْضِي الحَائِضُ المَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالبَيْتِ.
          وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا بَأْسَ أَنْ تَقْرَأَ الآيَةَ، وَلَمْ يَرَ ابنُ عَبَّاسٍ بِالقِرَاءَةِ لِلْجُنُبِ بَأْسًا.
          وَكَانَ النَّبيُّ(1) صلعم يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ(2) أَحْيَانِهِ، وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ يَخْرُجَ الحُيَّضُ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ(3)، وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَان أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا بِكِتَابِ النَّبيِّ صلعم فَقَرَأَ فَإِذَا فِيهِ: ╖: {قُلْ(4) يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ(5)} الآية[آل عِمْرَان:64].
          وقَالَ(6) عَطَاءٌ: عَنْ جَابِرٍ: حَاضَتْ عَائِشَةُ فَنَسَكَتِ المَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ الطَّوَافِ بِالبَيْتِ، وَلَا تُصَلِّي، وَقَالَ الحَكَمُ: إِنِّي لأذْبَحُ وَأَنَا جُنُبٌ. وَقَالَ اللهُ ╡: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ}[الأنعام:121].
          فيهِ: عَائِشَةُ: أَنَّها حَاضَتْ بسَرِفَ، فَقَالَ لَهَا النَّبيُّ صلعم: (إِنَّ ذَلِكِ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي). [خ¦305]
          قال المُؤَلِّفُ: هذا الباب كلُّه مبنيٌّ على مذهب مَن أجاز للحائض والجُنُب تلاوة القرآن، وهو قول حمَّادِ بنِ أبي سُلَيْمَان والحَكَمِ بنِ عُتَيْبَةَ، وأهل الظَّاهر، وقال إِبْرَاهِيْمُ(7) النَّخَعِيُّ: لا بأس أن يقرأ الجُنُب والحائض الآية ونحوها، وأجاز عِكْرِمَةُ للجُنُب أن يقرأ، وليس له أن يتمَّ سورةً كاملةً، ذكره الطَّبَرِيُّ. واختلف قول مالكٍ في قراءة الحائض(8)، فروى عنه ابنُ القَاسِمِ وغيره إباحة الحائض أن تقرأ ما شاءت من القرآن، وروى عنه ابنُ عبدِ الحَكَمِ منعها من ذلك إلَّا الآية والآيتين، ومنعها أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ وأحمدُ وأبو ثَوْرٍ من قليله وكثيره، ورُوِيَ مثله عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، وعن عَطَاءٍ وأبي العَالِيَةِ وسَعِيْدِ بن جُبَيْرٍ والزُّهْرِيِّ.
          وكذلك اختلف قول مالكٍ / في قراءة الجُنُب، فروى عنه ابنُ القَاسِمِ أنَّه(9) يقرأ(10) الآية والآيتين(11) للارتياع وشبهه، وذكر ابنُ مَعَينٍ(12) عن مالكٍ قال: إنَّه ليأخذ بنفسي أن يقرأ الجُنُب القرآن، وقال الأوزاعيُّ: لا يقرأ الجُنُب إلَّا آية الرُّكوب، وآية النُزُول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} الآية[الزُّخرف:13]، {وَقُلْ رَبِّ(13) أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} الآية[المؤمنون:29]، وقال أبو حنيفةَ: لا يقرأ الجُنُب إلَّا بعض آيةٍ، ومنعه الشَّافعيُّ قليله وكثيره. وأمَّا اختلاف السَّلف في ذلك فرُوِيَ عن جابرٍ أنَّ الحائض لا تقرأ القرآن، وهو قول أبي العاليةِ وعَطَاءٍ وسَعَيْدِ بنِ جُبَيْرٍ والزُّهْرِيِّ(14)، ورُوِيَ(15) عن عُمَرَ بن الخَطَّابِ وعليِّ بنِ أبي طَالِبٍ وجابرٍ: أنَّه لا يقرأ الجُنُب القرآن(16)، وهو قول أبي وَائِلٍ، وحجَّة الَّذين كرهوا ذلك، ما رواه مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عن نافعٍ عن ابنِ عُمَرَ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((لَا يَقْرَأُ الجُنُبُ والحَائِضُ شَيْئًا مِنَ القُرْآنِ)). واحتَجَّ مَن منع الجُنُب بما(17) رواه شُعْبَةُ عن عَمْرِو بنِ مُرَّةَ عن عبدِ اللهِ بنِ سَلَمَةَ عن عليٍّ قال: ((لَمْ يَكُنِ النَّبيُّ ◙ يَحْجُبُهُ عَنِ القُرْآنِ شَيْءٌ غَيْرُ(18) الجَنَابَةِ)). واحتَجَّ الَّذين أجازوا ذلك بأنَّ ابنَ عبَّاسٍ كان يقرأ وردَه وهو جُنُبٌ، فقيل له في ذلك، فقال: ما في جوفي أكثر منه، وقال حمَّادٌ: سألتُ ابن المُسَيَّب أيقرأ الجُنُب القرآن؟ قال: أليس في جوفه؟ وبما(19) رواه عُبَاْدَةُ بنُ نُسِيٍّ، عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ غَنْمٍ أنَّه سأل مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ أيقرأ الجُنُب القرآن؟ قال: نعم، إن شاء، قلت: والحائض والنُّفساء؟ قال: نعم، لا يَدَعَنَّ أحدٌ ذكرَ اللهِ وتلاوةَ كتابِه على حالٍ، قلت: فإنَّ النَّاس يكرهونه، قال: مَن كرهه فإنَّما كرهه تَنَزُّهًا، ومَن نهى عنه فإنَّما يقول بغير علمٍ، ما نهى رَسُولُ الله صلعم عن شيءٍ مِن ذلك.
          قال الطَّبَرِيُّ: واعتلُّوا مِن طريق النَّظر بأنَّ(20) قراءة(21) القرآن قد ندب إليها النَّاس كما ندبوا إلى ذكر الله والتَّسبيح والتَّهليل، قالوا: وقد قامت الدِّلالة بأنَّ ذكر الله مطلقٌ للجُنُب والحائض، قالوا: وقراءة القرآن في معنى ذلك في أنَّها مطلقةٌ لهما، إذْ لا حجَّة تُفَرِّق بين ذلك.
          قال الطَّبَرِيُّ: والصَّواب عندنا في ذلك ما رُوِيَ عنه ◙: ((أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ القُرْآنَ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا))، وخَبر عَائِشَةَ: ((أَنَّهُ ◙(22) كَانَ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ))، فإنَّ قراءته القرآن طاهرًا كان اختيارًا منه لأفضل الحالتين، والحال الَّتي كان يذكر الله فيها ويقرأ القرآن غير طاهرٍ فإنَّ ذلك كان تعليمًا منه أمَّته(23) أنَّ ذلك جائزٌ لهم وغير محظورٍ عليهم ذكر الله وقراءة(24) القرآن، إذ بعثه الله تعالى إلى خلقه معلِّمًا وهاديًا، غير أنِّي أَستحبُّ له أن يقرأ القرآن على أتمِّ أحوال الطَّهارة، وليس ذلك وإن أحببته بواجبٍ؛ لأنَّ الله ╡ لم يوجب فرض الطَّهارة على عباده المؤمنين إلَّا إذا قاموا إلى الصَّلاة.(25) قال المُهَلَّبُ: في شُهُود الحائض المناسك كلِّها وتكبيرها في العيدين دليلٌ على جواز قراءتها القرآن(26)؛ لأنَّه(27) مِن السُّنَّة ذكر الله تعالى في المناسك،(28) وفي كتابه إلى هِرَقْلَ بآيةٍ(29) مِن القرآن دليلٌ على ذلك، وعلى جواز حمل الحائض والجُنُب للقرآن(30)؛ لأنَّه لو كان حرامًا لم يكتب النَّبيُّ صلعم إليهم بآيٍ مِن القرآن وهو يعلم أنَّه(31) يمسُّونه بأيديهم وهم أنجاسٌ، لكنَّ القرآن وإن كان لا يلحقه أَذًى ولا تناله نجاسةٌ، فالواجب تنزيهه وترفيعه عمَّن لم يكن على أكمل أحوال الطَّهارة، لقوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوْعَةٍ مُطَهَّرَةٍ}[عبس:13-14]، فلم يكن حقُّ إطهاره تكريمه وترفيعه ما ظهر ملكٌ تكريم(32) الصُّحف التي وصفها الله تعالى بالطَّهارة، كما أراك في رواية ابن القاسم أنَّ قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُوْنَ}[الواقعة:79]ليس بمعنى الإلزام والحتم بل بمعنى الأدب والتَّوقير، وأباح للحائض قراءة القرآن لطول أمرها، وكرهه للجُنُب إلَّا الشَّيء اليسير لقرب أمره(33).


[1] في (ص): ((الرسول)).
[2] قوله: ((كلِّ)) ليس في (م).
[3] قوله: ((ويدعون)) ليس في (م).
[4] قوله: ((قل)) ليس في (م).
[5] قوله: ((سواء)) ليس في المطبوع و(م) و(ص).
[6] في (ص): ((قال)).
[7] قوله: ((إبراهيم)) ليس في (م).
[8] قوله: ((في قراءة الحائض)) ليس في (م).
[9] زاد في (م): ((لا)).
[10] زاد في (م): ((إلَّا)).
[11] في المطبوع و(ص): ((والاثنتين)).
[12] في (م) والمطبوع و(ص): ((شعبان)).
[13] في (م): ((و{رَبِّ})).
[14] قوله: ((وأمَّا اختلاف السَّلف في ذلك فروي عن جابرٍ أنَّ الحائض لا تقرأ القرآن، وهو قول أبي العالية وعطاء وسعيد بن جبير والزُّهري)) ليس في (م).
[15] زاد في (م): ((مثله)).
[16] قوله: ((أنَّه لا يقرأ الجنب القرآن)) ليس في (م).
[17] في (م): ((وما))، وقوله: ((واحتَجَّ من منع الجنب)) ليس في (م).
[18] في (م): ((ليس)).
[19] في (ز) صورتها: ((وربَّما)).
[20] في (ص): ((فإن)).
[21] في المطبوع و(ص): ((تلاوة)).
[22] زاد في (ص): ((أنه)).
[23] قوله: ((أمَّته)) ليس في المطبوع.
[24] في المطبوع و(ص): ((وتلاوة)).
[25] قوله: ((قال الطَّبريُّ: واعتلُّوا من طريق النَّظر بأنَّ قراءة القرآن قد ندب إليها النَّاس كما ندبوا إلى ذكر الله... إلى قوله... لم يوجب فرض الطَّهارة على عباده المؤمنين إلَّا إذا قاموا إلى الصَّلاة)) ليس في (م) هنا وجات بعد قليل مجزأة سأذكرها في التَّعليق في مواضعها.
[26] في المطبوع و(ص): ((للقرآن)).
[27] في (م) و(ص): ((لأنَّ)).
[28] جاء في (م) هنا: ((قال الطَّبريُّ: قد ندب النَّاس إليها كما ندبوا إلى ذكر الله والتَّسبيح والتَّهليل وقد قامت الدِّلالة بأنَّ ذكر الله مطلقٌ للجُنُب والحائض وقراءة القرآن في معنى ذلك في أنَّها مطلقةٌ لهما إذ لا حجَّة تفرِّق بين ذلك، قال المهلَّب:)).
[29] في (م): ((آية)).
[30] في المطبوع: ((القرآن)).
[31] في (م) و(ص): ((أنَّهم)).
[32] في المطبوع: ((مكرَّم)).
[33] قوله: ((فلم يكن حقُّ إطهاره تكريمه وترفيعه ما ظهر ملك تكريم الصُّحف الَّتي وصفها الله تعالى بالطَّهارة، كما أراك في رواية ابن القاسم أنَّ قوله تعالى: {لَا يَمَسَّهُ إِلَّا المُطَهَّرُوْنَ} [الواقعة: 79] ليس بمعنى الإلزام والحتم بل بمعنى الأدب والتَّوقير، وأباح للحائض قراءة القرآن لطول أمرها، وكرهه للجُنُب إلَّا الشَّيء اليسير لقرب أمره.)) ليس في (م).
وجاء في (م) هنا: ((قال الطَّبَرِيُّ: والصَّواب عندنا في ذلك أنَّ ما رُوِيَ عنه ◙: (أنَّه كان يذكر الله على كلِّ أحيانه وأنَّه كان يقرأ القرآن ما لم يكن جُنُبًا)، فإنَّ قراءته القرآن طاهرًا كان اختيارًا منه لأفضل الحالتين، والحال الَّتي كان يذكر الله فيها ويقرأ القرآن غير طاهرٍ فإنَّ ذلك كان تعليمًا منه أمَّته أنَّ ذلك جائزٌ لهم وغير محظورٍ عليهم ذكر الله وقراءة القرآن، إذ بعثه الله إلى خلقه معلِّمًا هاديًا، غير أنِّي أستحبُّ له أن يقرأ القرآن على أتمِّ أحوال الطَّهارة، وليس ذلك بواجب؛ لأنَّ الله تعالى لم يوجب فرض الطَّهارة على عباده المؤمنين إلَّا إذا قاموا إلى الصَّلاة.)).