شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض

          ░3▒ بَابُ: قِرَاءَةِ الرَّجُلِ فِي حِجْرِ امْرَأَتِهِ وهِيَ حَائِضٌ.
          وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ يُرْسِلُ خَادِمَهُ وَهِيَ حَائِضٌ إِلَى أَبِي رَزِيْنٍ لتَأْتِيْهِ بِالمُصْحَفِ فَتُمْسِكُهُ بِعِلَاقَتِهِ.
          فيهِ: عَائِشَةُ قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَتَّكِئُ في حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ(1) يَقْرَأُ القُرْآنَ)). [خ¦297]
          قال المؤَلِّفُ(2): غرض البخاري في هذا الباب أن يدلَّ على جواز حمل الحائض المصحف وقراءتها للقرآن؛ لأنَّ المؤمن الحافظ له أكبر أوعيته وها هو ذا صلعم أفضل المؤمنين بنبوَّته وحرمة(3) ما أودعه الله تعالى مِن طيب كلامه في حجر حائضٍ تاليًا للقرآن.
          وقد اختلف العُلماء في ذلك فمن(4) رخَّص للحائض والجُنُب في حمل المصحف بعِلَاقَتِهِ(5): الحَكَمُ بن عُيَيْنَةَ، وعَطَاءُ بنُ أبي رَبَاحٍ، وسَعِيْدُ بن جُبَيْرٍ، وحُمَادُ بنُ أبي سُلَيْمَانَ، وهو قول أهل الظَّاهر. واحتَجَّوا بأنَّ تأويل قوله(6) تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ}[الواقعة:79]أنَّهم السَّفَرَةُ الكرام البررة، ولو كان ذلك نهيًا لقال تعالى: لا يَمَسَّه.
          وقالوا أيضًا: لما جاز للحائض والجُنُب(7) حمل الدَّنانير والدَّراهم وفيها ذكر الله(8) فكذلك المصْحف. واحتَجُّوا بقوله ◙: ((المُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ))، وبكتابه ◙ إلى هِرَقْلَ آيةً من القرآن، ولو كان حرامًا ما كتب النَّبيُّ صلعم بآي(9) القرآن وهو يعلم أنَّهم يمسُّونه بأيديهم وهم أنْجاسٌ، قالوا: وقد قامت الدِّلالة بأنَّ ذكر الله مطلقٌ للجُنُب والحائض، وقراءة القرآن في معنى ذكر الله، ولا حجَّة(10) تُفَرِّق بينهما. وذكر ابن أبي شَيْبَةَ أنَّ سَعِيْدَ بنَ جُبَيْرٍ دفع المصحف بعِلَاقَتِهِ إلى غلام له مجوسيٍّ، وأجاز الشَّعْبِيُّ ومُحَمَّدُ بنُ سِيرِينَ مسَّ المصحف على غير وضوء، وقال جمهور العلماء: لا يَمسُّ المصحف حائضٌ ولا جُنُبٌ، ولا يحمله إلَّا طاهرٌ غيرُ مُحْدِثٍ، رُوِيَ ذلك عن ابن عُمَرَ، وهو قول مالكٍ والأوزاعيِّ والثَّوْرِيِّ وأبي حنيفةَ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإِسْحَاقَ وأبي ثَوْرٍ، واحتَجَّ أكثرهم بقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُوْنَ}[الواقعة:79]، وقالوا(11): فلا يحمله إلَّا طاهرٌ، إلَّا أنَّ مالكًا قال: لا بأس أن يحمله المسافر غير طاهرٍ في خرجٍ أو عبيةٍ إذا لم يقصد لحمله ولا مسِّه، ولا بأس أن يحمله اليهوديُّ والنَّصرانُّي في العِكم(12) للضَّرورة، وأرجو أن يكون إمساك الصِّبيان للمصاحف للتعليم على غير وضوء خفيفًا، إن شاء الله. واحتَجَّ هؤلاء الَّذين لم يُجيزوا حمل المصحف إلَّا للطاهرٍ بكتابه صلعم إلى عَمْرِو بن حَزْمٍ حين بعثه إلى اليمن: ((لَا يَمَسُّ المُصْحَفَ إِلَّا طَاهِرٌ)) وأنَّ عائشة ♦ كانت تقرأ القرآن وهي حائض ويُمْسَكُ لها المصحف ولا تمسكه هي، ولو كان إمساكها له وهي حائضٌ كإمساك غيرها لما أمسكه غيرها، ولعرفها أحدٌ مِن الصَّحابة أنَّ قراءتها فيه جائزٌ، وسأذكر اختلافهم في قراءة الحائض والجُنُب، وحجَّة كلِّ فريقٍ منهم في بابِ تقضي الحائضُ المناسكَ كلَّها إلَّا الطَّوافَ بالبيتِ بعد هذا(13) إنْ شاء الله ╡ [خ¦6/7-510].


[1] في (م): ((و)).
[2] في (م): ((المهلَّب)).
[3] في (ص): ((وحرمته)).
[4] في (م): ((فممن)).
[5] في (ص): ((بغلافه)).
[6] في (م): ((واحتَجُّوا أنَّ قوله)).
[7] في (م): ((للجُنُب والحائض)).
[8] زاد في (م): ((╡)).
[9] في (ص): ((ما كتب إليه رسول الله بآي)).
[10] في (م): ((في معنى ذكر، ولا حجَّة)).
[11] في (م) المطبوع و(ص): ((قالوا)).
[12] في المطبوع: ((القلم))، وفي حاشية (ز): ((العِكم: العدل)).
[13] قوله: ((بعد هذا)) ليس في (ص).