شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الاستحاضة

          ░8▒ بَابُ: الاِسْتِحَاضَةِ.(1)
          فيهِ: عَائِشَةُ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أبي حُبَيْشٍ قَالَتْ: يَا رَسُول اللهِ، إِنِّي لا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟ فَقَالَ رَسُول اللهِ صلعم: (إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ فَاتْرُكِي(2) الصَّلَاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ / الدَّم وَصَلِّي). [خ¦306]
          قال ابنُ القَصَّارِ: في هذا الحديث حجَّةٌ لمالكٍ والشَّافعيِّ في أنَّ المستحاضة إذا ميَّزت دم الحيض من دم الاستحاضة أنَّها تعتبر الدَّم وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا أقبلت الحيضة تركت الصَّلاة، وإذا أدبرت اغتسلتْ وصلَّتْ. وقال أبو حنيفةَ: إنَّما تعمل على عدد اللَّيالي والأيَّام، واحتَجَّ بحديث أبي أُسَامَةَ(3) عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ أنَّ النَّبيَّ ◙ قال لفَاطِمَةَ بنتِ أبي حُبَيْشٍ: ((إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الأيَّام الَّتي كُنْتِ تَحِيْضِيْنَ فِيْهَا ثمَّ اغتَسِلِي وَصَلَّي)). وقد رُوِيَ: ((دَعِي الصَّلَاةَ(4) قَدْرَ أَقْرَائِكِ))، واحتَجَّ أيضًا بحديث سُلَيْمَان بنِ يَسَارٍ عن أمِّ سَلَمَةَ: أنَّ امرأةً كانَتْ تُهْرَاقُ الدِّمَاءَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم فاستَفتَتْ لها أمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ الله صلعم، فقَالَ: ((لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي والأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيْضُهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيْبَهَا الدَّمُ(5) الَّذِي أَصَابَهَا، فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ)). قالوا: فردَّها ◙ إلى الأيَّام، وتركوا حديث(6) مالكٍ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ الَّذي فيه [اعتبار الدَّم، وهو يردُّ قولهم، ويدلُّ أنَّ الأيَّام لا حكم لها بمجرَّدها، وإنَّما لها حكمٌ مع الدَّم، فيجب أن يُدار معه حيث دار؛ لأنَّه لا يقول لها: ((إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالحَيْضَةِ، فَإِذَا فإذا(7) أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ)) إلَّا وهي عارفةٌ بالحيضة، فإذا ميَّزتها عملت على إقبال الدَّم وإدباره، وكذلك قوله صلعم لفَاطِمَةَ: ((دَعِي الصَّلَاةَ أيَّام أَقْرَائِكِ)) الَّذي احتَجَّ به أبو حنيفةَ في مراعاة الأيَّام واللَّيالي حجَّةٌ عليه أيضًا؛ لأنَّه صلعم قال لها: ((دَعِي الصَّلَاةَ أيَّام أَقْرَائِكِ))، فدلَّ أنَّها كانت مميِّزةً، فأحالها على أيَّام أقرائها الَّتي تعرفها مع وجود الدَّم الَّذي لا تعرفه؛ لأنَّه لمَّا(8) قال: أيَّام حيضتك أو ((أيَّام أقرائك)) فلا بدَّ أن تكون عرفت الحيض بلونه ورائحته، وإلَّا كان مشكلًا؛ لأنَّها سألت عن الزَّائد على دمها هل هو حيضٌ أو غيره؟ ولو أراد أيَّام حيضتك فيما مضى لكان أيضًا مشكلًا(9) إن لم تكن تعرف دم الحيض وتميِّزه، فإنَّما أحالها على حيض تعرفه، وقد يمكن أن تكون هذه المرأة لها تمييز وظنَّت مع التَّمييز أنَّه إذا انقطع عنها دم الحيض بعد أيَّامها وتغيَّر أنَّ حكمها واحدٌ في ترك الصَّلاة، فأعلمها أنَّه إذا تغيَّر بعدَ تقضِّي أيَّامها التي كانت تحيضها أنَّها تغتسل وتصلِّي، وأنَّها(10) إذا رأت الدَّم الَّذي تعرفه في تلك الأيَّام أنَّها تترك الصَّلاة. هذا قول ابن القَصَّارِ، قال: ويحتمل أن يكون قوله في حديث مالكٍ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ: ((إِذَا أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ)) في امرأةٍ لها تمييزٌ، وقوله: ((لِتَنْظُرْ عَدَدَ الأيَّام وَاللَّيَالِي(11))) في امرأةٍ لا تمييز لها، فيكون الحديثان في امرأتين مختلفتي الأحوال. قال المُؤَلِّفُ: وهذا يُشبه قول الكوفيين؛ لأنَّ الكوفيين يقولون: إذا لم تُمَيِّز دم الحيض من دم الاستحاضة فإنَّها تترك الصَّلاة عدد أيَّام حيضتها المعروفة إن كان لها أيَّامٌ، وإن لم تكن لها أيَّام فعدَّة عشرة أيَّام _الَّذي هو عند أبي حنيفة أكثر الحيض_ ثمَّ تكون مُستَحَاضَةً تصوم وتُصَلِّي ويأتيها زوجها، حتَّى تأتي على مثل أيَّامها من الشَّهر المستقبل، فتترك الصَّلاة عددها، ثمَّ هي مُستَحَاضَةٌ، ثمَّ لا تزال تفعل ذلك في كلِّ شهرٍ، ولا تراعي تغيُّر الدَّم. وعند مالكٍ إذا لم تُمَيِّزْ إقبال الدَّم وإدباره فهي _قيل_: تقضِّي أكثره، تقعد إلى أكثر أيَّامها المعروفة إن كان لها أيَّامٌ، أو قعدت خمسة عشر يومًا _الَّذي هو أكثر الحيض_ وبعد ذلك تُصَلِّي أبدًا وإن طال انتظارها؛ لأنَّ دمها دم عِرْقٍ حتَّى يتغيَّر إلى دم الحيض، ولا تشكُّ فيه فتعمل على إقباله وإدباره، وهذا قول الكوفيين(12) الَّذين يراعون الأيَّام أيضًا فيمن لم تميِّز دم الحيض من دم الاستحاضة ولا يراعون الدَّم، ووافقهم(13) الشَّافعيُّ، وعند مالكٍ أنَّه لا بدَّ من مراعاة الدَّم مع مقدار الأيَّام سواءً ميَّزت دم الحيض من دم الاستحاضة أو لم تميِّزه، فإن ميَّزته عملت على إقبال الدَّم وإدباره سواء كان قبل تقضِّي مدَّة أكثر الحيض أو بعده، فإن لم تميِّز(14) فهي قبل تقضِّي أكثره تقعد إلى أكثره(15)، وبعد ذلك تُصَلِّي أبدًا(16) حتَّى ترى دمًا لا شكَّ(17) فيه، فتعمل على إقباله وإدباره. والدَّليل على أنَّ لفظ الحديثين وإن كان مختلفًا فهو في امرأةٍ واحدةٍ في حالةٍ واحدةٍ أنَّ فَاطِمَةَ هذه](18) سألت النَّبيَّ صلعم لمَّا تَمَادَى الدَّم بها وجَازَ أيَّام حيضتها المعروفة، فقال لها: إنَّ دَمَك ليس دَمَ حيضٍ، وإنَّما هو دَمُ عِرْقٍ، ودَمُ العُرُوقِ(19) لا يوجب حكمًا، فإذا أقبلت الحيضة وميَّزتِ دمها بلونه ورائحته فَدَعِي الصَّلَاةَ؛ لأنه لا يقول لها ذلك إلَّا وهي عارفةٌ بالحيضة، وكذلك قوله: (إِذَا أَدْبَرَتْ)، لا يقوله إلَّا للمميِّزة لدم الاستحاضة من دم الحيضة، ثمَّ لمَّا تَمَادَى بها(20) الدَّم سألته(21) سؤالًا ثانيًا ليزيدها شِفَاءً في مقدار جلوسها إذ لم يكن في جوابها(22) الآخر _في رواية مالكٍ عن هِشَامٍ_ مقدار الأيَّام التي تجلسها، وإنَّما كان فيه اعتبار الدَّم خاصَّةً، فأرادت الاستثبات في أمرها، إذ قد يمكن أن يطول ذلك الدَّم بها، فقال لها صلعم: (دَعِي الصَّلاة قَدْرَ الأيَّام الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِيْنَ فِيْهَا)، فأخبرها(23) بمقدار مدَّة الأيَّام، وقد كان أمرها مرَّةً أخرى أن تعمل على إقبال دم الحيض وإدباره، فوجب اعتبار تغير الدَّم، واعتبار قدر الأيَّام، واستعمال الحديثين جميعًا إذ كان(24) كلُّ واحدٍ منهما يبيِّن معنى صاحبه ولا يُخالفه. فإن قيل: كيف يعتبر قدر الأيَّام؟ قيل: وجه ذلك _والله أعلم_ لو أنَّ امرأةً كانت تحيض عن(25) رأس كلِّ هلالٍ ثمانية أيَّامٍ، فأطبق عليها الدَّم ولم ينقطع عنها، فإنَّا نقول لها: صَلِّي حتَّى تري دمًا تُنكريه(26)، فإن رأت الدَّم المُنكر قبل رأس الهلال بثلاثة أيَّامٍ أو أربعةٍ احتسبت بتلك الأيَّام وجلست عن الصَّلاة تمام ثمانية أيَّامٍ على ما كانت تعتاده(27)، وهكذا تفعل أيضًا إن تغيَّر الدَّم بعد رأس الهلال بأيَّام(28)، فإن بقي الدَّم بحاله لم تترك الصَّلاة؛ لأنَّ دمها دم عِرْقٍ وإنَّما تعتبر(29) أبدًا تغيُّر الدَّم مع مقدار الأيَّام. وممَّا يدلُّ على صحَّة ما قلنا أنَّ الحديثين وإن اختلف لفظ الجواب فيهما عن النَّبيِّ صلعم في امرأةٍ واحدةٍ وقصَّةٍ واحدةٍ أنَّ حديث سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ عن أمِّ سَلَمَةَ: (أَنَّ امْرَأةً كَانَتْ تُهْرَاقُ الدِّمَاءَ فَاسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللهِ صلعم)، إنَّما كان في قصَّة فَاطِمَةَ بنتِ أبي حُبُيْشٍ، وأنَّها كانت تسأل عن حالها أبدًا بنفسها، وتبعث غيرها على السُّؤال رغبةً في الاستثبات، وتزيِّد اليقين في أمرها(30) ما رواه الحُمَيْدِيُّ عن سُفْيَانَ بن عُيَيْنَةَ، قال: حدَّثنا أبو(31) أَيُّوبَ السَّختِيَانِيُّ، عن سُلَيْمَانَ بن يَسَارٍ، أنَّه سمعه يُحَدِّثُ عن أمِّ سَلَمَةَ أنَّها قالت: كانت فَاطِمَةُ بنتُ أبي حُبَيْشٍ تُسْتَحَاضُ، فسَأَلَتِ النَّبيَّ صلعم فقَاَل: ((إِنَّهُ لَيْسَ بالحَيْضَةِ، وَلَكِنَّهُ عِرْقٌ)) وأمرها أن تدع الصَّلاة قدر أقرائها، أو قدر حيضتها، ثمَّ تغتسل، وهذا يدلُّ أنَّ قدر الدَّم أو قدر أيَّام الدَّم واحدٌ في المعنى؛ لأنَّ القُرْءَ اسمٌ للدَّم واسمٌ للوقت، وأنَّ أمَّ سَلَمَةَ فَهِمَتْ ذلك في جوابٍ واحدٍ في مسألةٍ واحدةٍ(32). واختلفوا في مقدار المدَّة التي تَترك فيها المستحاضةُ الصَّلاة، فأمَّا المبتدأة في الحيض يتمادى بها الدَّم(33)، ففي رواية(34) «المدوَّنة» عن مالكٍ أنَّها تقعد خمسة عشر يومًا ثمَّ تُصَلِّي، ورُوِيَ عن عليِّ بن زيادٍ عن مالكٍ أنَّها تقعد أيَّام لَدَّاتِهَا(35)، ثمَّ هي مستحاضةٌ. وحكى ابنُ حَبِيْبٍ أنَّ قول مالكٍ اختلف فيها، فقال مرَّةً: تقعد خمسة عشر يومًا، وأخذ به الأكابر من أصحابه: المُغِيْرَةُ وابنُ دِيْنَارٍ وابنُ أبي حازمٍ ومُطَرِّفٌ وابنُ المَاجِشُونِ وابنُ نافعٍ. وقال بعد ذلك(36): تقعد قدر(37) أيَّام لَدَّاتِهَا، وأخذ به: ابنُ كِنَانَةَ وابنُ وَهْبٍ وابنُ القَاسِمِ وأَشْهَبُ وابنُ عبدِ الحَكَمِ وأَصْبَغُ. قال ابنُ حَبِيْبِ: ثمَّ اختلفوا في الاستطهار على أيَّام لَدَّاتِهَا، فقال ابنُ كِنَانَةَ وأَصْبَغُ: تستطهر على أيَّام لَدَّاتِهَا بثلاثةٍ أيَّامٍ، وقال / ابنُ القَاسِمِ: لا تستطهر، والمعروف عن ابنِ القَاسِمِ خلاف ما حكاه ابن حَبِيْبٍ. وقد حكى أبو الفَرَجِ أنَّ ابنَ القَاسِمِ روى عن مالكٍ في المبتدأة بالدَّم أنَّها تقعد أيَّام لَدَّاتِهَا، ثمَّ تستطهر بثلاثة أيَّام ٍكاستطهار الَّتي لها أيَّام معروفةٌ. وقال الكوفيُّون والشَّافعيُّ: إذا استمرَّ بالمبتدأة الدَّم تدع الصَّلاة عشرًا(38)، ثمَّ تغتسل وتُصَلِّي عشرين يومًا، ولا تزال تفعل ذلك كلَّ شهرٍ حتَّى ينقطع(39) الدَّم، واحتَجُّوا بما رواه الخالدُ بنُ أيُّوبٍ عن أَنَسٍ قال: أقلُّ الحيض ثلاثة وأكثره عشرة. وهذا لا حجَّة فيه لأنَّ الخالدَ بنَ أيُّوبٍ(40) مجهولٌ، ولا يُعتدُّ بنقله. وقال الأوزاعيُّ: تقعد كما تقعد نساؤها: أمُّها، وخالتها، وعمَّتها، ثمَّ هي بعد ذلك(41) مستحاضةٌ، فإنْ لم تعرف أقراء نسائها فلتقعد على(42) أقراء النِّساء سبعة أيَّامٍ، ثمَّ تَغتسل وتُصَلِّي وهي مستحاضةٌ، وبه قال أحمدُ وإِسْحَاقُ، وهو أحد قولي الشَّافعيِّ(43). فإنْ كانت المرأة ممَّن قد حاضت، ولها أيَّامٌ متَّفقةٌ لم(44) تختلف، فإنَّ قول مالكٍ اختلف فيها إذا تمادى بها الدَّم، فكان أوَّل قوله: أنَّها تقعد خمسة عشر يومًا، وبه أخذ(45) الأكابر مِن أصحابه الَّذين(46) ذكرنا أوَّلًا، ثمَّ رجع فقال: تستطهر على أيَّامها بثلاثٍ ما لم تجاوز خمسة عشر يومًا، وأَخذ به: ابنُ كِنَانَةَ وابنُ وَهْبٍ وابنُ القَاسِمِ وأَشَهْبُ وابنُ عبدِ الحَكَمِ وأَصْبَغُ. فإن اختلفت(47) أيَّامها، فقالَ ابن القَاسِمِ ومَن قال معه بالاستطهار: أنَّها(48) تستطهر على أكثر أيَّامها، حاشا أَصْبَغُ فإنَّه قال: على أقلِّها. فإن أطبق عليها الدَّم(49) ولم ينقطع عنها، فإنَّها تغتسل بعد خمسة عشر يومًا على قول مالكٍ الأوَّل و(50) بعد أيَّامها، والاستطهار بثلاثةٍ(51) على قوله الآخر ثمَّ تُصَلِّي وتصوم(52) ويأتيها زوجها، ودمها دم عرقٍ حتَّى يتغيَّر إلى دم الحيض. والنِّساء يعرفنه بلونه ورائحته. فإذا تغيَّر دم الاستحاضة إلى دم الحيض وتمادى بها الدَّم المتغيِّر(53)، ففي «المستخرجة»: روى عيسى عن(54) ابنِ القَاسِمِ، أنَّها تستطهر بثلاثة أيَّامٍ على مقدار أيَّامها المعهودة، وقاله ابن المَاجِشُونِ. وروى أَصْبَغُ عن ابنِ القَاسِمِ أنَّها(55) تجلس مقدار أيَّامها المعهودة ولا تستطهر بشيءٍ، وفي «العُتْبِيَّةِ(56) » عن ابنِ القَاسِمِ أنَّها تستطهر(57) مقدار أيَّامها إذا كان لون دمها متغيِّرًا، وأمَّا إن انقطع التَّغيُّر قبل تمام أيَّام حيضتها(58) المعهودة وعاد إلى دم الاستحاضة فإنَّها تغتسل حينئذٍ، ويكون بمنزلة مَن انقطع دمها، وهو قول أصحاب مالكٍ كلِّهم إلَّا أَصْبَغَ، فإنَّ ابنَ مُزْيَنٍ(59) حكى عنه أنَّه إذا تغيَّر دمها إلى الحيض قبل تمام أيَّامها ثمَّ عاد بعد ذلك(60) إلى دم الاستحاضة(61) فإنَّها تقعد مقدار أيَّامها تُلَفِّقُ من أيَّام الاستحاضة مع أيَّام الدَّم المتغيِّر مقدار أيَّام حيضتها المعهودة(62)، وهذا خلاف الحديث(63)؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم أمر فَاطِمَةَ إذا أدبرت الحيضة(64) وأقبل دم الاستحاضة أنَّها(65) تغتسل وتُصَلِّي. قال ابنُ حَبِيْبٍ: وإنَّما(66) انتهى في أكثر الحيض إلى خمسة عشر يومًا مِن أجل أنَّه(67) يُقال: أكثر ما تدع المرأة الصَّلاة نصف عمرها، أخبرني بذلك مُطَرِّفٌ، وقد رُوِيَ ذلك عن النَّبيِّ صلعم. ودفع الكوفيُّون والشَّافعيُّ الاستطهار، واحتَجُّوا بقوله صلعم لفَاطِمَةَ: ((دَعِي الصَّلَاةَ عَدَدَ(68) الأيَّامِ الَّتي كُنْتِ تَحِيْضِيْنَ(69) ثمَّ اغتَسِلِي(70))). فأمرها صلعم بالغُسْلِ بعد أيَّامها المعروفة، ولم يأمرها بالاستطهار، ولا بالزِّيادة على أيَّام حيضتها(71)، قالوا: فالسُّنَّة تنفي الاستطهار؛ لأنَّ(72) دمها جائز أن يكون حيضةً(73)، وجائزٌ أن يكون استحاضةً، والصَّلاة فرضٌ بيقينٍ فلا يجوز أن تدعها حتَّى تتيقن أنَّها حائضٌ، قالوا(74): وقد قال مالكٌ ما يدلُّ على ذلك، قال: لأنْ تُصَلِّي المستحاضة وليست عليها خيرٌ(75) من أن تدع الصَّلاة وهي واجبةٌ عليها. وروى ابن وَهْبٍ عن مالكٍ، قال: إنَّا لنقول: تستطهر الحائض، وما ندري أحقٌّ هو أم لا؟ ذكرَه ابنُ المَوَّازِ. واختلفوا في المستحاضة تترك الصَّلاة أيَّام استحاضتها جاهلةً أو متأوِّلةً، فروى أبو زَيْدٍ عن ابنِ القَاسِمِ: إنَّها إذا تركت الصَّلاة جاهلةً أنَّها لا تُعيدها،(76) ولو أعادتها كان(77) أحبُّ إليَّ. وقال ابنُ شَعْبَانَ: إذا تركت المستحاضة الصَّلاة شهرًا تظنُّه حيضًا أنَّه لا قضاء عليها، وكذلك النُّفساء لو طال بها الدَّم ثلاثة أشهرٍ وظنَّت أنَّه دم نفاسٍ. وأنكر سَحْنُونٌ هذا مِن قول ابنِ القَاسِمِ(78)، وقال: عليها الإعادة، وقال: لا يُعذر أحدٌ في الصَّلاة بالجهل، وبهذا قال: أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ. واحتَجَّ أبو عبدِ اللهِ بنِ أبي صُفْرَةَ لقول ابنِ القَاسِمِ أنَّه لا إعادة عليها بحديث فَاطِمَةَ بنتِ أبي حُبَيْشٍ، قال(79): ألَا ترى قولها: إنِّي لَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فدلَّ ذلك أنَّه طال انتظارها / للدَّم حتَّى تفاحش عليها، وهي في ذلك تاركةٌ للصَّلاة، فقالت للنَّبيِّ صلعم: إنِّي لَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فقَاَل: ((إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ))، ولم يأمرها بإعادة ما تركته(80) مِن الصَّلوات في أوَّل(81) انتظارها.
          وقال غيره: بل حديث فَاطِمَةَ هذا يدلُّ أنَّ عليها(82) الإعادة؛ لأنَّها إنَّما قالت للنَّبيِّ صلعم: إنِّي لَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فدلَّ أنَّها كانت مُصَلِّيَةً تلك الأيَّام؛ لأنَّها لا تقول: أَفَأَدَعُ الصَّلَاَة، إلَّا مَنْ هي فاعلةٌ للصَّلاة وغير تاركةٍ لها، إلَّا أنَّه لمَّا تمادى بها الدَّم خَشيت أن يكون حيضًا، فسألت النَّبيَّ صلعم هل تتمادى على ما كانت عليه مِن التزام الصَّلاة أو(83) هل تتركها؟ فأجابها النَّبيُّ صلعم بجوابٍ دلَّ على أنَّها لو تركتها لكان عليها قضاؤها، وذلك قوله: ((وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الأيَّامَ الَّتِي كُنْتِ تَحِيْضِيْنَ فِيْهَا ثمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي)). فدلَّ أنَّه لا تسقط الصَّلاة عنها إلَّا في مقدار أيَّام حيضتها(84) خاصَّةً. وأمَّا قوله صلعم: (فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّم وَصَلِّي). فإنَّ العلماء مجمعون على أنَّ المستحاضة تغتسل عند(85) إدبار الحيضة، ودلَّ أيضًا هذا الحديث أنَّ(86) المستحاضة لا يلزمها الوضوء عند كلِّ صلاةٍ، ولا يلزمها غير ذلك الغُسْل؛ لأنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم لم يأمرها بغيره، ولو لزمها غيره لأمرها به، وفي ذلك ردٌّ على(87) مَن رأى عليها الغُسْلَ لكلِّ صلاةٍ، ولقول مَن رأى عليها أن تجمع بين صلاتي النَّهار بغُسْلٍ واحدٍ، وبين صلاتي اللَّيل بغُسْلٍ واحدٍ، وتغتسل للصُّبح؛ لأنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم لم يأمرها بشيءٍ مِن ذلك كلِّه في حديث هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، وهو أصحُّ ما في هذا الباب. وأمَّا مذاهب العلماء في ذلك: فإنَّ طائفةً منهم ذهبت إلى أنَّه يجب على المستحاضة الغُسْلُ لكلِّ صلاةٍ، ورووا في ذلك آثارًا عن النَّبيِّ صلعم، ورُوِيَ(88) هذا عن عَلَيٍّ وابنِ عَبَّاسٍ وابنِ الزُّبَيْرِ، وقالوا: لا يأتي عليها وقت صلاة إلَّا وهي شاكَّةٌ هل هي حائضٌ أو طاهرٌ(89)؟ فوجب عليها الغُسْلُ لكلِّ صلاة. وعن سَعِيْدِ بن جُبَيْرٍ مثله، وقال آخرون: يجب عليها أن تغتسل للظُّهر والعصر غُسْلًا واحدًا، وللمغرب والعشاء غُسْلًا واحدًا، وللصُّبح غُسْلًا واحدًا(90)، ورووا بذلك آثارًا. ورُوِيَ(91) عن عليٍّ وابنِ عبَّاسٍ مثل ذلك، وهو قول النَّخَعِيِّ، وقال آخرون: تغتسل كلُّ يومٍ مرَّة أي وقت شاءت، ورُوِيَ(92) ذلك عن عليٍّ. وقال آخرون: تغتسل من ظهرٍ إلى ظهرٍ(93)، هذا قول ابنِ عُمَرَ وأَنَسٍ و(94) عن الحَسَنِ وعَطَاءٍ وسَالِمٍ وسَعِيْدِ بنِ المُسَيَّبِ مثله(95). وقد رُوِيَ عن ابنِ المُسَيَّبِ(96) أنَّها لا تغتسل إلَّا مِن طهرٍ إلى طهرٍ، وهو انقضاء أيَّام دمها، أو تمييز إقبال استحاضتها، وهو قول مالكٍ، وسائر فقهاء الأمصار، إلَّا أنَّهم اختلفوا، هل تتوضَّأ لكلِّ صلاةٍ بعد الغُسْلِ؟ فذهب الثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ(97) واللَّيثُ والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ، إلى أنَّها تغتسل غُسْلًا واحدًا عند إدبار حيضتها وإقبال(98) استحاضتها، ثمَّ تغسل عنها الدَّم وتتوضَّأ لكلِّ صلاة. واحتَجُّوا بما رواه حمَّاد بن سَلَمَةَ عن هِشَامِ بنُ عُرْوَةَ عن أبيه عن عَائِشَةَ في حديث فَاطِمَةَ بنتِ أبي حُبَيْشٍ أنَّ النَّبيَّ(99) صلعم قال لها: ((فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا(100) فاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وتَوَضَّئِي وَصَلِّي)). قالوا: وهذه زيادةٌ لحَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ يجب قبولها، وقد كانت عَائِشَةُ تُفتي بالوضوء لكلِّ صلاةٍ، وهي راوية الحديث، فهي أعلم بمخرجه.
          ذهب عِكْرِمَةُ ورَبِيْعَةُ ومَالِكٌ وأيُّوبُ وجماعةٌ: إلى أنَّها تغتسل عند إدبار حيضتها وإقبال استحاضتها، ولا تتوضَّأ إلَّا عند إيجاب الحَدَث على ما جاء في حديث هذا الباب. وقالوا: هكذا رواه مَالِكٌ واللَّيْثُ وعَمْرُو بنُ الحَارِثِ عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ وهم الحفَّاظ، ولم يأمرها بالوضوء لكلِّ صلاةٍ، وقد علَّل ذلك صلعم بقوله: ((إِنَّما ذَلِكَ دَمُ(101) عِرْقٍ وَلَيْسَ بالحَيْضَةِ)). ودم العروق(102) لا يوجب وضوءًا للصَّلاة(103) كالفِصَادِ. ولما كان دم الاستحاضة لا يفسد الصَّلاة لم يوجب طهارةً؛ لأنَّا نجدها تُصَلِّي وإن قطر الدَّم على الحصير، ولا بجرح تتوضَّأ(104)، وحرمة الصَّلاة أوكد، فوجب أن تكون في غير الصَّلاة كذلك.


[1] في (م): ((طهارة)).
[2] في (م): ((فدعي)).
[3] في (م) و(ص): ((أمامة)).
[4] قوله ((قدر الأيَّام التي كنت تحيضين فيها ثمَّ اغتسلي وصلِّي. وقد رُوِيَ: دعي الصَّلاة)) ليس في (م).
[5] قوله ((الدَّم)) ليس في (م).
[6] قوله ((حديث)) ليس في (م).
[7] في (م): ((فإذا)).
[8] قوله ((لمَّا)) ليس في (م).
[9] قوله ((لأنَّها سألت عن الزَّائد على دمها هل هو حيضٌ أو غيره، ولو أراد أيَّام حيضتك فيما مضى لكان أيضًا مشكلًا)) ليس في (م).
[10] في (م): ((فإنَّها)).
[11] في (م): ((اللَّيالي والأيَّام)).
[12] قوله ((لأنَّ الكوفيين يقولون: إذا لم تميِّز دم الحيض من دم الاستحاضة فإنَّها... إلى قوله... حتَّى يتغيَّر إلى دم الحيض، ولا تشكُّ فيه فتعمل على إقباله وإدباره، وهذا قول الكوفيين)) ليس في (م).
[13] زاد في (م): ((عليه)).
[14] في المطبوع: ((تميزه)).
[15] في المطبوع: ((تقصد إلى الكثرة)).
[16] قوله ((أبدًا)) ليس في (م).
[17] في (م): ((تشكُّ)).
[18] ما بين معقوفتين ليس في (ص).
[19] في (ص): ((العرق)).
[20] قوله: ((بها)) ليس في (ص).
[21] في (م): ((سألت)).
[22] في (م): ((جوابه)).
[23] في (م): ((وأخبرها)).
[24] قوله ((كان)) ليس في (م).
[25] في (ص): ((عند)).
[26] في المطبوع: ((تنكرينه))، وفي (م): ((تنكره)).
[27] في (م): ((تعتاد)).
[28] قوله ((بأيَّام)) ليس في (م).
[29] في (م): ((تتبع)).
[30] زاد في المطبوع و(ص): ((ويدلُّ على ذلك)).
[31] قوله ((أبو)) ليس في (م).
[32] قوله ((في مسألة واحدة)) ليس في (م).
[33] قوله ((الدَّم)) ليس في (م).
[34] قوله ((رواية)) ليس في (م).
[35] في (م): ((أدائها)).
[36] في المطبوع: ((مالك)).
[37] قوله: ((قدر)) ليس في (ص).
[38] في (م): ((عشرة أيَّام)).
[39] زاد في المطبوع و(ص): ((عنها)).
[40] قوله ((بن أيُّوب)) ليس في (م).
[41] قوله ((ذلك)) ليس في (م).
[42] قوله ((على)) ليس في (م).
[43] في (م): ((وهو قول الشَّافعيِّ)).
[44] في (م): ((لا)).
[45] في (م): ((وأخذ به)).
[46] في (م) و(ص): ((الَّذي)).
[47] في (م): ((اختلف)).
[48] في (م): ((و)).
[49] في (م): ((الدَّم عليها)).
[50] في (م): ((أو)) وفي المطبوع و(ص): ((من)).
[51] في (م) والمطبوع و(ص): ((بثلاث)).
[52] في (م): ((الأخير ثمَّ تصوم وتصلِّي)).
[53] في (م): ((الدَّم المتغيِّر بها)).
[54] قوله ((عن)) ليس في (م).
[55] قوله ((تستطهر بثلاثة أيَّام على مقدار أيَّامها المعهودة، وقاله ابن الماجشون. وروى أصبغ عن ابن القاسم أنَّها)) ليس في (م).
[56] في (م): ((المستخرجة)).
[57] في (م): ((تجلس)).
[58] في (م): ((حيضها)).
[59] في (م): ((مزن)).
[60] قوله: ((بعد ذلك)) ليس في (ص).
[61] في (م): ((إلى الحيض ثمَّ عاد بعد ذلك إلى دم الاستحاضة قبل تمام أيَّامها)).
[62] في (م): ((الحيض المعهود)).
[63] في (م): ((للحديث)).
[64] في (م): ((إذا أدبر دم الحيضة)).
[65] في (م): ((أن)).
[66] في (م): ((وقال ابن حَبِيْبٍ: إنَّما)).
[67] في (ص): ((إنما)).
[68] في (م): ((قدر)).
[69] زاد في المطبوع و(م) و(ص): ((فيها)).
[70] في (م): ((اغسلي)).
[71] في (م): ((حيضها)).
[72] زاد في (م): ((أيَّام)).
[73] في (م): ((حيضًا)).
[74] في (ص) صورتها: ((كما قالوا)).
[75] في (م): ((خيرًا)).
[76] في (م): ((تشك)). في (ص): ((لا تعيد)).
[77] في (م): ((قال: ولو أعادتها لكان)). في (ص): ((لكان)).
[78] قوله ((من قول ابن القاسم)) ليس في (م).
[79] في (م) والمطبوع و(ص): ((فقال)).
[80] في (م): ((تركت)).
[81] في (م): ((طول)).
[82] في (م) و(ص): ((فاطمة يدلُّ على أنَّ عليها)).
[83] في المطبوع و(ص): ((أم)).
[84] في (م): ((حيضها)).
[85] في (م): ((من)).
[86] في (م): ((وهذا الحديث يدلُّ أيضًا على أنَّ)).
[87] في (م): ((لقول)).
[88] في (م): ((روي)).
[89] في المطبوع و(ص): ((هل هي طاهرٌ أو حائضٌ)).
[90] قوله: ((واحدًا)) ليس في (ص).
[91] قوله ((روي)) ليس في (م).
[92] في (م): ((روي)).
[93] في المطبوع و(ص): ((من طهرٍ إلى طهرٍ)).
[94] زاد في (م): ((روي)).
[95] قوله ((مثله)) ليس في (م).
[96] في (م): ((ورُوِيَ عن المسيَّب)).
[97] في (م): ((فذهب أبو حنيفة والثَّوريُّ)).
[98] في (ص) والمطبوع: ((أو إقبال)).
[99] في (ص): ((الرسول)).
[100] قوله ((فإذا ذهب قدرها)) ليس في (م).
[101] قوله ((دم)) ليس في (م).
[102] في (م): ((العرق)).
[103] في (م): ((وضوء الصَّلاة)).
[104] في المطبوع و(ص): ((ولا لجرح تتوضَّأ))، وفي (م): ((ولا)).