شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إقبال المحيض وإدباره

          ░19▒ بَابُ: إِقْبَالِ المَحِيضِ(1) وَإِدْبَارِهِ.
          وَكُنَّ نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إلى عَائِشَةَ بِالدَّرَجَةِ فِيهَا الكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ، فَتَقُولُ: لا تَعْجَلْنَ حتَّى تَرَيْنَ القَصَّةَ / البَيْضَاءَ، تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الحَيْضَةِ.
          وَبَلَغَ بِنْتَ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ أَنَّ نِسَاءً يَدْعُونَ بِالمَصَابِيحِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يَنْظُرْنَ إلى الطُّهْرِ(2)، فَقَالَتْ: مَا كَانَ النِّسَاءُ يَصْنَعْنَ هَذَا، وَعَابَتْ عَلَيْهِنَّ.
          فيهِ: عَائِشَةُ(3) أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أبي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَسَأَلَتِ النَّبيَّ صلعم فَقَالَ: (ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاة، وَإِذَا(4) أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي). [خ¦320]
          أمَّا إقبال المحيض فهو دفعةٌ مِن دمٍ، فإذا رأتها المرأة أمسكت عَن الصَّلاة، وهذا إجماعٌ مِن العلماء، إلَّا أنَّ الدَّفعة مِن الدَّم لا تُحسب قرْءًا في العدَّة عندهم. وأمَّا إدبار الحيض فهو إقبال الطُّهر علامتان: القَصَّة البيضاء و(5) الجُفُوف، وهو أن تُدخل الخرقة فتخرجها جافةً.
          واختلف(6) أصحاب مالكٍ عنه(7) في أيِّهما أبلغ(8) براءةً في الرَّحم مِن الحيض؟ فروى ابنُ القَاسِمِ عن مالكٍ:(9) إذا كانت ممَّن ترى القَصَّة البيضاء فلا تطهر حتَّى تراها، وإن كانت ممَّن لا تراها فطُهرها الجُفُوف، وبه قال عِيْسَى بنُ دِيْنَارٍ: أنَّ القَصَّة أبلغ مِن الجُفُوف. وممن رُوِيَ ذلك عنه(10) من السَّلف: أَسْمَاءُ بنتُ أبي بَكْرٍ ومَكْحُولٌ. وذكر ابنُ عبدِ الحَكَمِ عن مالكٍ: أنَّها تطهر بالجُفُوف وإن كانت ممَّن ترى القَصَّة البيضاء(11)؛ لأنَّ أوَّل الحيض دمٌ، ثمَّ صُفْرَةٌ، ثمَّ كُدْرَةٌ، ثمَّ يكون رقيقًا(12) كالقَصَّة، ثمَّ ينقطع، فإذا انقطع قبل هذه المنازل فقد برئت الرَّحم مِن الحيض؛ لأنَّه ليس بعد الجُفُوف انتظار شيءٍ. وممَّن قال(13): إنَّ الجُفُوف أبلغ: عَمْرَةُ(14) وعَطَاءُ بنُ أبي رَبَاحٍ، وهو(15) قول عَائِشَةَ: (لَا تَعْجَلْنَ حتَّى تَرَيْنَ القَصَّةَ البَيْضَاءَ). يدلُّ على(16) أنَّها آخر ما يكون مِن علامات الطُّهر، وأنَّه(17) لا علامة بعدها أبلغ منها، ولو كانت علامةً أبلغ منها لقالتْ: حتَّى ترين(18) القَصَّة أو الجُفُوف.
          وفي قولها(19): (لا تَعْجَلْنَ حتَّى تَرَيْنَ القَصَّةَ)(20). دليلٌ أنَّ الصُّفْرَة والكُدْرَة في أيَّام الحيض حيضٌ؛ لأنَّها في حكم الحائض حتَّى ترى القَصَّة البيضاء، وقد ترى قبلها صُفْرَةً و(21) كُدْرَةً، والقَصَّة: الماء الأبيض الَّذي يدفعه الرَّحم عند انقطاع الحيض، شُبِّهَ لبياضه(22) بالقَصَّ، وهو الجِصُّ، ومنه(23) الحديث: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ عَنْ تَقْصِيْصِ القُبُورِ))، ويُروى: ((عَنْ تَجْصِيْصِ القُبُورِ))، وهو تلبيسها(24) بالجِصِّ. قال المُهَلَّبُ: فيه(25) من الفقه أنَّ العادات(26) الرَّافعة للحرج هي السُّنَّة، ومن خالفها بما يدخل الحرج فهو مذمومٌ كما ذمَّته ابنةُ(27) زيدِ بنِ ثَابِتٍ. قال غيره: إنَّما أنكرت ابنةُ زيدٍ افتقاد أمر(28) الحيض في غير أوقات الصَّلوات(29)؛ لأنَّ جوف اللَّيل ليس بوقت صلاةٍ، وإنَّما على النِّساء افتقاد أحوالهنَّ للصَّلاة، وإن(30) كنَّ قد طهرن تأهَّبن للغُسْلِ لها. واختلف الفقهاء في الحائض تطهر قبل الفجر ولا(31) تغتسل حتَّى يطلع الفجر، فقال مالكٌ والثَّوْرِيُّ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ وأبو ثَوْرٍ: هي بمنزلة الجُنُب تغتسل وتصوم، ويجزئها صوم ذلك اليوم. وقال الأوزاعيُّ: تصومه، وتقضيه. وقال أبو حنيفةَ: إنْ كانت أيَّامها أقلَّ مِن عشرةٍ(32) صامته وقضت، وإن كانت أكثر مِن عشرةٍ(33) صامته ولم(34) تقضه. قال بعض النَّاس: قد(35) اتَّفق هؤلاء على صومه، واختلفوا في قضائه، ولا حجَّة مع من أوجب قضاءه إلَّا الرَّأي والدَّعوى، والفرائض لا تثبت إلَّا من جهة التَّوقيف، وقد قال عبدُ الملكِ بنُ المَاجِشُونِ: يومها ذلك يوم فطرٍ، ولا أرى(36) إن كان يرى صومه أم لا، فإن كان لا يراه فهو شذوذٌ ولا(37) يُعَرَّج عليه، ولا معنى لمن اعتلَّ به من أنَّ الحيض ينقض الصَّوم، والاحتلام لا ينقضه؛ لأنَّ من طهُرت من حيضتها ليست بحائضٍ، والغُسْل(38) إنَّما يجب عليها إذا طهُرت، ولا يجب الغُسْل على حائضٍ.
          وقوله: (كُنَّ(39) نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إلى عَائِشَةَ بِالدِّرَجَةِ فِيهَا الكُرْسُفُ). هكذا يرويه أصحاب الحديث: الدِّرَجَة، بكسر الدَّال وتشديدها وفتح الرَّاء، يعنون بذلك جمع دِرَجٍ، وهو الَّذي يجعل(40) فيه النِّساء(41)، وأهل اللُّغة ينكرون ذلك، ويقولون: إنَّما(42) الَّذي كنَّ يبعثن به(43) الخِرَق فيها القطن، كنَّ يمتحنَّ بها أمر طهورهنَّ(44)، واحدتها دُرْجَة _بضمِّ الدَّال وسكون الرَّاء_ قال ابنُ الأعرابيُّ: يُقال للَّذي يدخل في حياء النَّاقة إذا أرادوا إرآتها(45) الدُّرَجَة والدُّرْج، وجمعه أَدْرَاجٌ(46) ودِرَجَةٌ ودَرِيْجٌ، وقد أدرجت النَّاقة، واستدرجت المرأة(47). والكُرْسُفُ: القطن. /


[1] في (ص): ((الحيض)).
[2] قوله: ((إلى الطُّهر)) ليس في (م).
[3] قوله: ((عائشة)) ليس في (م).
[4] في (م): ((فإذا)).
[5] في (م): ((أو)).
[6] في (ص): ((اختلف)).
[7] في (ص): ((فيهن)).
[8] زاد في (م): ((في)).
[9] زاد في المطبوع و(ص): ((أنَّه)).
[10] في (م) والمطبوع و(ص): ((وممَّن رُوِيَ عنه ذلك)).
[11] قوله ((البيضاء)) ليس في (م)، وفيها زيادة: ((قال ابن حبيبٍ: والجفوف أبلغ في البراءة من القَصَّة)).
[12] في (م): ((نقاء)).
[13] في (م): ((وممَّن رُوِيَ عنه)).
[14] في المطبوع و(ص): ((عمر)).
[15] قوله ((هو)) ليس في (م).
[16] قوله: ((على)) ليس في (ص).
[17] في (ص): ((وأنها)).
[18] في (م): ((تري)).
[19] في (م): ((قوله)).
[20] زاد في (م): ((البيضاء)).
[21] في المطبوع و(ص): ((أو)).
[22] في (م): ((نسبة لبياضه)).
[23] في المطبوع و(ص): ((وفي)).
[24] في (م): ((تلبسها))، وفي المطبوع و(ص): ((تلييسها)).
[25] في (م): ((وفيه)).
[26] في المطبوع و(ص): ((العادة)).
[27] في المطبوع و(ص): ((بنت)).
[28] في (م): ((افتقادهن دم)).
[29] في (م): ((الصَّلاة)).
[30] في (م) والمطبوع و(ص): ((فإنَّ)).
[31] في (م): ((فلا)).
[32] في (م): ((عشر)).
[33] في (م): ((عشر)).
[34] في (م): ((ولا)).
[35] قوله ((قال بعض النَّاس قد)) ليس في (م)، وبعدها: ((فاتَّفق)).
[36] في (م) والمطبوع: ((أدري)). في (ص): ((لا أدري)).
[37] في (م) والمطبوع: ((لا)).
[38] في (م): ((لأنَّ الغسلن)).
[39] في (م): ((وكن)).
[40] في (ص): ((يجعلون)).
[41] في (م): ((النِّساء فيه))، وزاد في المطبوع و(ص): ((الطِّيب)).
[42] في (ص): ((أما)).
[43] قوله ((به)) ليس في (م).
[44] في (م): ((أمر طهرهن))، وفي المطبوع: ((أمور طهورهن)).
[45] في (م) والمطبوع: ((إرآمها)).
[46] في (م): ((وجمعها دراج)).
[47] في (م): ((بالمراة)).