شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض

          ░24▒ بَابُ: إِذَا حَاضَتْ في الشَهْرٍ ثَلاثَ حِيَضٍ وَمَا تُصَدَّقُ النِّسَاءُ في الحَيْضِ والحَمْلِ(1) فِيمَا يُمْكِنُ مِنَ الحَيْضِ(2)، لِقَوْلِهِ ╡: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ في أَرْحَامِهِنَّ}[البقرة:228].
          وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ، إِنْ جَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا مِمَّنْ يُرْضَى دِيْنُهُ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلاثًا في كلِّ(3) شَهْرٍ صُدِّقَتْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَقْرَاؤُهَا مَا كَانَتْ، وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ.
          وَقَالَ عَطَاءٌ: الحَيْضُ يَوْمٌ إلى خَمْسَ عَشْرَةَ ليلة(4). وَقَالَ مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ: سَأَلْتُ ابنَ سِيرِينَ عَنِ المَرْأَةِ تَرَى الدَّم بَعْدَ قُرْئِهَا بِخَمْسَةِ أيَّام؟ قَالَ: النِّسَاءُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.
          فيهِ: عَائِشَةُ أَنَّ فَاطِمَةَ ابنةَ(5) أبي حُبَيْشٍ سَأَلَتِ النَّبيَّ صلعم، قَالَتْ: إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ(6)، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: (لَا، إِنَّ ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الأيَّام(7) الَّتي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي). [خ¦325]
          قال ابنُ المُنذِرِ: اختلف أهل العلم في العدَّة الَّتي تُصَدَّقُ فيها المرأة إذا ادَّعتها، فرُوِيَ عن عليٍّ وشُرَيْحٍ: أنَّها إن ادَّعت أنَّها حاضت ثلاث حِيَضٍ في شهرٍ، أو خمس وثلاثين ليلةً، وجاءت ببيِّنة من النِّساء العُدُول مِن بطانة أهلها صُدِّقَتْ، وهو قول أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ. قال المُؤَلِّفُ: وقد(8) رُوِيَ مثله عن مالكٍ، قال(9) في كتاب إرخاء الستور مِن «المدوَّنة» قال: إذا قالت المطلَّقة: حِضْتُ ثلاثَ حِيَضٍ في شهرٍ، سُئِلَ النِّسَاءُ عن ذلك، فإن أمكن ذلك عندهنَّ صُدِّقَتْ. وقالت طائفةٌ: لا تُصَدَّق(10) إذا ادَّعت أنَّ عدَّتها انقضتْ في أقلِّ من شهرين إذا كانت مِن ذوات الحيض، قال: لأنَّه ليس في العادة أن تكون امرأةٌ على أقلِّ الطُّهر وأقلِّ الحيض؛ لأنَّه إذا كثر الحيض قلَّ الطُّهر، وإذا قلَّ الطُّهر كثر الحيض(11)، وهذا قول أبي حنيفةَ. وقالت طائفةٌ: لا تُصَدَّقُ في أقلِّ مِن تسعةٍ وثلاثين يومًا، وهو قول الثَّوْرِيِّ وأبي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ، وذلك لأنَّ أقلَّ الحيض عندهما ثلاثة أيَّامٍ، وأقلَّ الطُّهر خمسة عشر يومًا. وقال أبو ثَوْرٍ: أقلُّ ما يكون في ذلك إذا طلَّقها في أوَّل الطُّهر سبعة وأربعون يومًا، وذلك أنَّ أقلَّ الطُّهر خمسة عشر يومًا، وأقلَّ الحيض يومٌ، وذكر ابن أبي زَيْدٍ عن سَحْنُونٍ أنَّ أقلَّ العدَّة أربعون ليلةً. وقال الشَّافعيُّ: تُصَدَّقُ في أكثر مِن اثنين وثلاثين يومًا، وذلك أن يطلِّقها زوجها وقد بقي مِن الطُّهر ساعةً، فتحيض يومًا وتطهر خمسة عشر يومًا، ثمَّ تحيض يومًا وتطهر خمسة عشر يومًا، فإذا دخلت(12) في الدَّم مِن الحيضة الثَّالثة فقد انقضت عدَّتها. وقال إِسْحَاقُ وأبو عُبَيْدٍ: إن كانت أقراؤها(13) معلومةً قبل أن تُبتلى حتَّى عرفها بطانة أهلها مما يُرضى دينهنَّ فإنَّها تُصَدَّقُ، وإن لم تعرف ذلك وكان أوَّل ما رأت الحيض أو الطُّهر فإنَّها لا تُصَدَّقُ في أقلِّ من ثلاثة أشهرٍ؛ لأنَّ الله تعالى جعل بدل(14) كلَّ حيضةٍ شهرًا(15) في اللَّائي يئسن مِن المحيض واللَّائي لم يحضن، فإذا أشكل على مسلم انقضاء عدَّة امرأة(16) ردَّها إلى الكتاب والسُّنَّة. ووجه الموافقة أنَّه ليس في العادة أن تكون امرأةٌ على أقلِّ الطُّهر وأقلِّ الحيض؛ لأنَّه إذا كثر الحيض قلَّ الطُّهر،(17) / وإذا قلَّ الحيض كثر الطُّهر، فجعل لما ينحصر الأكثر، ولما لا ينحصر الأقلَّ، وبدأ بالحيض. وقال أبو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: لا تُصَدَّقُ في أقلِّ مِن تسعةٍ وثلاثين يومًا، وهو قول الثَّوْرِيُّ(18)، ووجه الموافقة بين الحديثين(19) والتَّرجمة هو قوله صلعم: (دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الأَيَّامِ الَّتي كُنْتِ تَحِيْضِيْنَ فِيْهَا)، فوكل ذلك إلى أمانتها وعادتها، وقدر الأيَّام قد يقلُّ ويكثر(20) على قدر أحوال النِّساء في أسنانهنَّ وبلدانهنَّ إلَّا أنَّها إذا ادَّعت ما لا يكاد يُعرف لم يُقبل قولها إلَّا ببيِّنةٍ.
          قال إِسْمَاعِيْلُ بنُ إِسْحَاقَ: ألا ترى إلى قول عليٍّ وشُرَيْحٍ في ذلك، ولو كان عندهما أنَّ ثلاث حِيَضٍ لا تكون في شهرٍ لما قَبِلَا قول نسائها، وهو معنى قول عَطَاءٍ وإِبْرَاهِيْمَ، وقد فَسَّرَ إِسْمَاعِيْلُ بنُ إِسْحَاقَ قول عليٍّ وشُرَيْحٍ بتفسيرٍ آخرٍ(21)، قال: وليس قولهما عندنا: إن جاءت ببيِّنةٍ مِن بطانة أهلها أنَّها هي قد حاضت(22) هذا الحيض، وإنَّما هو فيما نرى _والله أعلم_ أن تشهد(23) نساءٌ من نسائها أنَّ هذا يكون، وقد كان في نسائهنَّ، فإنَّه أحرى أن يوجد فيهنَّ مثل ما فيها، وأن يُقارب(24) حيضهنَّ وحيضها، وأنَّه إن لم يوجد ما قالت مِن الحيض في نسائها كانت هي منه أبعد، فعلى هذا معنى هذا(25) الحديث، وهو يقوِّي مذهب أهل المدينة أنَّ العدَّة إنَّما تُحمل على المعروف مِن حيض النِّساء لا على المرأة والمرأتين الَّذي(26) لا يكاد يوجد ولا يُعرف. قال غيره: والأشبه بمعنى(27) ما أراد عليٌّ وشُرَيْحٌ _والله أعلم_(28) أن تكون حاضت، لقولهما(29): إن جاءت ببيِّنةٍ من بطانة أهلها أنَّها حاضت، ولم يقولا: أنَّ غيرها من النِّساء حاض كذلك.
          قال إِسْمَاعِيْلُ: وفي قول عليٍّ وشُرَيْحٍ أنَّ أقلَّ الطُّهر لا يكون خمسة عشر يومًا، وأنَّ أقلَّ الحيض لا يكون ثلاثةً، كما قال أبو حنيفةَ وأصحابه، وليس فيه بيانٌ لأقلِّ الطُّهر وأقلِّ الحيض كم هو، غير أنَّ فيه بيانًا أنَّهما لم يُنكرا ما عرَفه(30) النِّساء في(31) ذلك. قال غيره: والمشهور عن مالكٍ أنَّه(32) لا حدَّ عنده لأقلِّ الطُّهر ولا لأقلِّ الحيض إلَّا ما تُثبته(33) النِّساء، وقد اختُلِفَ(34) في ذلك، ففي «المدوَّنة» ما يدلُّ أنَّ أقلَّ الطُّهر ثمانية أيَّامٍ، وهو قول سَحْنُونٍ، وروى يحيى بنُ يحيى، عن ابنِ القَاسِمِ عن مالكٍ: أنَّ أقلَّ الطُّهر عشرة أيَّامٍ.
          وروى ابنُ المَاجِشُونِ عن مالكٍ: أنَّ أقلَّ الطُّهر خمسةٌ، وأقلَّ الحيض خمسةٌ، إلَّا أنَّه قال: لا يكون هذا(35) في حيضٍ واحدٍ؛ لأنَّه إذا قلَّ الحيض كثر الطُّهر وإذا قلَّ الطُّهر كثر الحيض. وقالت طائفةٌ: أقلُّ الحيض يومٌ وليلةٌ، رُوِيَ ذلك عن عَطَاءٍ وهو قول الشَّافعيِّ وأحمدَ وأبي ثَوْرٍ. وقال الأَوْزَاعِيُّ: عندنا امرأةٌ تحيض غدوةً وتطهر عشيَّةً، وقال الأوزاعيُّ: يرون أنَّه جنسٌ، تدع له(36) الصَّلاة. وقال مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ: أقلُّ الحيض ثلاثة أيَّامٍ وأكثره خمسة عشر يومًا، وهو قول الشَّافعيِّ في أكثر الحيض.(37) وقال أبو حنيفةَ والثَّوْرِيُّ: أقلُّ الحيض ثلاثةٌ، وأكثره عشرةٌ، وهو قول الشَّافعيِّ ومُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ في أقلِّ الطُّهر، وهو الصَّحيح(38)؛ لأنَّ الله تعالى جعل عدَّة ذوات الأقراء ثلاثة(39) قُرُوءٍ، وجعل عدَّة من لا تحيض من صِغَرٍ أو كِبَرٍ ثلاثة أشهرٍ، فكان كلُّ(40) قرءٍ عوضًا من شهرٍ، والشَّهر يجمع الطُّهر والحيض، فإذا قلَّ الطُّهر كَثُرَ الحيض وإذا قلَّ الحيض كَثُرَ الطُّهر، فلمَّا كان أكثر الحيض خمسة عشر يومًا، وجب أن يكون بإزائه أقلُّ الطِّهر خمسة عشر يومًا، ليكمل في الشَّهر الواحد حيضٌ وطهرٌ، وهو المتعارف في الأغلب من خلقة النِّساء وجبلَّتهنَّ(41) مع دلائل القرآن والسُّنَّة. واحتَجَّ أهل العراق لقولهم: إنَّ الأقراء الحيض بقوله ◙ في حديث فَاطِمَةَ: (وَلَكِنْ دَعِي الصَّلاة قَدْرَ الأيَّامِ الَّتي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا). قالوا: وهذا(42) مثل قوله ◙: ((دَعِي الصَّلاة أيَّامَ أَقْرَائِكِ)). ولا يجوز أن يأمرها صلعم بترك الصَّلاة أيَّام طهرها، وإنَّما أمرها أن تترك الصَّلاة(43) أيَّام الحيض، فيُقال لهم: ما أنكرتم أن يكون صلعم أمرها بترك الصَّلاة أيَّام أقرائها الَّتي هي فيها(44) حائضٌ، وأضاف الأيَّام إلى الأقراء والأطهار جميعًا، فكأنَّه قل(45) صلعم: تدع المستحاضة الصَّلاة الأيَّام الَّتي كانت تحيضها مِن أقرائها، وهذا شائعٌ(46) في كلام العرب؛ لأنَّ الأقراء(47) عندهم اسمٌ للطُّهر واسمٌ للحيض، وسيأتي زيادة بيانٍ في هذا المعنى في كتاب الطَّلاق في(48) كتاب العدَّة إن شاء الله ╡ [خ¦68/39-7907]. /


[1] في (ص): ((في الحمل والحيض)).
[2] قوله ((فيما يمكن من الحيض)) ليس في (م).
[3] قوله ((كلِّ)) ليس في (م).
[4] قوله ((ليلة)) ليس في (م).
[5] في المطبوع و(م) و(ص): ((بنت)).
[6] قوله ((أبي حُبَيْشٍ قال يا رَسُول الله إِنِّي لا أطهر)) ليس في (م).
[7] في (ص): ((الصلاة أيام الأقراء)).
[8] قوله ((قد)) ليس في (م).
[9] قوله ((قال)) ليس في (م).
[10] في (م): ((لا أصدقها)).
[11] في (م): ((وإذا قلَّ الحيض كثر الطُّهر)).
[12] في (م): ((طعنت)).
[13] في (م): ((إن كانت لها أقراء)).
[14] في (م): ((براءة)).
[15] في (ص): ((شهر)).
[16] في (م): ((فإذا أشكل انقضاء عدَّة امرأةٍ على مسلمٍ)).
[17] وقع هنا خطأ في ترتيب أوراق المخطوط في (ص).
[18] قوله ((ووجه الموافقة أنَّه ليس في العادة أن تكون امرأةٌ على أقلِّ الطُّهر وأقلِّ الحيض... إلى قوله... أبو يوسفَ ومحمَّدٌ: لا تُصَدَّقُ في أقلِّ من تسعةٍ وثلاثين يومًا، وهو قول الثَّوريِّ)) ليس في (م).
[19] في (م): ((الحديث)).
[20] في (ص): ((وقد)).
[21] قوله ((وهو معنى قول عطاءٍ وإبراهيمَ، وقد فسَّر إسماعيلُ بنُ إسحاقَ قول عليٍّ وشريحٍ بتفسيرٍ آخرٍ)) ليس في (م).
[22] في (م): ((أنَّها قد حاضت هي))، وفي المطبوع: ((أنَّها قد حاضت)).
[23] في (م): ((شهد)).
[24] في (م): ((يتقارب)).
[25] قوله ((هذا)) ليس في (م).
[26] في (م): ((الَّتي)).
[27] قوله ((بمعنى)) ليس في المطبوع و(ص).
[28] زاد في المطبوع: ((بمعنى)).
[29] في (م): ((لقولها)).
[30] في المطبوع: ((زعمه)).
[31] في (ص): ((من)).
[32] قوله: ((أنه)) ليس في (ص).
[33] في (ص): ((يثبته)).
[34] زاد في (م): ((عنه)).
[35] في المطبوع و(ص): ((قال هذا لا يكون)).
[36] في (م): ((حسن تدع لها)).
[37] زاد في (م): ((وقول أصحاب مالك)).
[38] في (م): ((وأكثره عشرة وأقلُّ الطُّهر خمسة عشر يومًا وهو قول محمَّد بن مسلمة والشَّافعيِّ في أقلِّ الطُّهر وهو الصَّحيح)).
[39] في (ص): ((ثلاث)).
[40] في (م): ((فكانت لكلِّ)).
[41] في (م): ((وجملتهن))، وفي المطبوع و(ص): ((أو جبلتهن)).
[42] في (م): ((وهو)).
[43] في (م): ((أن تتركها)).
[44] في (م) والمطبوع و(ص): ((فيهن)).
[45] في (ص): ((قال)).
[46] في (م) والمطبوع و(ص): ((سائغ)).
[47] في (م): ((القرء)).
[48] في (م): ((وفي)).