شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ترخيص النبي في الأوعية والظروف بعد النهي

          ░8▒ بَابُ تَرْخِيصِ النَّبيِّ صلعم في الأوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ بَعْدَ النَّهْيِ.
          فيه: جَابِرٌ: (نَهَى النَّبيُّ ◙ عَنِ الظُّرُوفِ، فَقَالَتِ الأنْصَارُ: إِنَّهُ لا بُدَّ لَنَا مِنْهَا، قَالَ: فَلا إِذًا). [خ¦5592]
          وفيه: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمرٍو: (لَمَّا نَهَى النَّبيُّ ◙ عَنِ الأسْقِيَةِ، قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلعم: لَيْسَ(1) كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ سِقَاءً، فَرَخَّصَ لَهُمْ في الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ). وَقَالَ مرَّة: عَن الأوْعِيَةِ. [خ¦5593]
          وفيه عليٌّ: (نَهَى النَّبيُّ عنِ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ). [خ¦5594]
          وفيه: الأسْوَدُ: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَمَّا يُكْرَهُ أَنْ يُنْتَبَذَ(2) فِيهِ؟ فَقَالَتْ: نَهى النَّبيُّ صلعم أَهلَ الْبَيتِ أَنْ نَنْتَبِذَ في الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ، قُلْتُ: أَمَا ذَكَرَتِ الْجَرَّ وَالْحَنْتَمَ؟ قَالَتْ: إِنَّمَا أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ، أَأُحَدِّثُكَ مَا لَمْ أَسْمَعْ). [خ¦5595]
          وفيه: ابْنُ أبي أَوْفَى: (نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنِ الْجَرِّ الأخْضَرِ، قُلْتُ: أَنَشْرَبُ في الأبْيَضِ؟ قَالَ: لا). [خ¦5596]
          اختلف العلماء في هذا الباب على أقوال، فذهب مالك إلى جواز الانتباذ في جميع الظُّروف غير الدُّبَّاء والمزفَّت فإنَّه كره الانتباذ فيهما، ولم ينسخ عنده، وأخذ في ذلك بحديث عليٍّ وحديث عائشة(3): (أنَّ النَّبيَّ صلعم نَهَى عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ) وروي مثله عن ابن عمر، وذهب الثَّوريُّ والشَّافعيُّ إلى كراهية الانتباذ في الدُّبَّاء والمزفَّت والحَنْتَم والنَّقِير، لنهي النَّبيِّ صلعم عنها، ذكر ذلك البخاريُّ في باب الخمر من العسل وهو البِتْعُ من حديث الزُّهري عن أنس، أنَّ النَّبيَّ قال: ((لَا تَنتَبِذوا في الدُّبَّاءِ ولَا في المزَفَّتِ)). وكان أبو هريرة يُلحق معها الحَنتَم والنَّقِير.
          وقد روى النَّهي عن الانتباذ في هذه الأربعة من حديث ابن عبَّاس في حديث وفد عبد القيس، وقد ذكره البخاريُّ في كتاب الإيمان والعلم [خ¦53].
          ومعنى النَّهي عندهم عن الانتباذ فيها _والله أعلم_ لسرعة استحالة ما ينبذ فيها، فيصير خمرًا وهم لا يظنُّون ذلك، فيواقعون ما نهى الله ╡ عنه.
          وذكر الطَّبريُّ عن القائلين بتحريم الشَّراب المتَّخذ في الأوعية المذكورة المنكرين أن تكون منسوخة عن عُمَر بن الخطَّاب ☺ أنَّه قال: ((لأَنْ أشربَ في قُمقُمٍ محمِيٍّ فيحرقَ ما أحرقَ، ويبقيَ ما أبقى، أحبُّ إليَّ مِنْ(4) أنْ أشرَبَ مِنْ نبيذِ الجرِّ)).
          وعن عليِّ بن أبي طالب ☺ النَّهي عنه، وعن ابن عمر وابن عبَّاس وجابر وأبي هريرة وأنس مثله، وقال ابن عبَّاس لأبي جمرة: ((لا نشربُ نبيذَ الجرِّ وإنْ كانَ أحلى مِنَ العَسَلِ)) وكرهه ابن المسيِّب والحسن البصريُّ.
          وقال إسماعيل بن إسحاق: قال سليمان بن حرب: كلُّ شيء ذكره عمر(5) كان يشرب نبيذ الجرِّ أو يكرهه فإنَّما هو الحلو، فأمَّا المسكر فهو حرام في كلِّ وعاء.
          وقال أبو حنيفة وأصحابه: الانتباذ في جميع الأوعية كلِّها مباح. وقالوا: أحاديث النَّهي عن الانتباذ منسوخة بحديث جابر وغيره. ألا ترى أنَّ النَّبيَّ صلعم أطلقهم على جميع الأوعية والظُّروف حين قالت(6) له الأنصار إنَّه لا بدَّ لنا منها، فقال ◙: (فَلا إذَنْ) ولم يستثن منها شيئًا، واحتجُّوا بما رواه إسماعيل بن إسحاق قال: حدَّثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدَّثنا نافع بن يزيد، قال: حدَّثني أبو حزرة(7) يعقوب بن مجاهد قال: حدَّثني عبد الرَّحمن بن جابر بن عبد الله عن أبيه أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((إنِّي كنتُ نهيتُكُم أنْ تَنتَبِذوا في / الدُّبَّاء والحَنتَم والمزفَّتِ فانتبِذُوا، ولا أُحلِّ مسكرًا)) ورواه ابن وهب عن أسامة بن زيد عن محمَّد يحيى بن حبَّان(8)، عن عمِّه واسع، عن أبي سعيد الخدريِّ، عن النَّبيِّ صلعم مثله.
          قالوا: فثبت بهذه الآثار نسخ ما جاء في النَّهي عن الانتباذ في الأوعية، وثبتت إباحة الانتباذ في الأوعية كلها. وذكر الطَّبريُّ عن ابن عمر: الأوعية لا تحلُّ شيئًا ولا تحرِّمه. وعن ابن عبَّاس قال: كلُّ حلال في كلِّ ظرف حلال، وكلُّ حرام في كلِّ ظرف حرام، وهو قول النَّخَعِيِّ والشَّعبيِّ، قال الطَّبريُّ(9): وهذا القول أولى بالصَّواب، وقد تواترت الأخبار عن النَّبيِّ صلعم بتحريم كلِّ مسكر، وفي ذلك مقنع. وقال أبو جعفر الدَّاوديُّ: النَّهي عن الأوعية إنَّما كان قطعًا للذَّريعة، فلما قالوا للنَّبيِّ صلعم: إنَّا لا نجد بُدًّا من الانتباذ فيها(10) قال ◙: ((انتبِذُوا، وكلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ)).
          وكذلك كلُّ نهيٍ كان بمعنى التَّطرُّق إلى غيره يسقط عند(11) الضَّرورة، وذلك كنهيه عن الصَّلاة بعد العصر وبعد الصُّبح، ويجوز أن يُصلَّى على الجنائز(12) في تلك السَّاعتين لما بالنَّاس من الضَّرورة إلى دفن موتاهم، وليس ذلك كصلاة النَّافلة، إذ لا ضرورة إلى صلاتها حينئذ، وكنهيه ◙ عن الجلوس في الطُّرقات، فلمَّا ذكروا أنَّهم لا يجدون بُدًّا من ذلك؛ قال: ((إِذَا أَبَيتُم فأعْطُوا الطَّرِيقَ حقَّهُ)). وذلك غضُّ البصرِ، وردُّ السَّلام، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وعون الضَّعيف، وإرشاد الضَّالِّ. وأمَّا الجرُّ الأبيض فهو مثل الأخضر؛ لأنَّه كلُّه حَنتَم، وقال أبو عبيد: الحَنتم: جرار خضر كانت تحمل إليهم.


[1] قوله: ((ليس)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((ينبذ)).
[3] في (ص): ((علي وعائشة)).
[4] قوله: ((من)) ليس في (ص).
[5] في (ص): ((ذكر عمن)).
[6] في (ص): ((قال)).
[7] في المطبوع: ((أبو جمرة))، و في (ص): ((أبو حمزة)).
[8] في (ز): ((محمد بن حيان)) والمثبت من (ص).
[9] قوله: ((وهو قول النَّخَعِي والشَّعبي، قال الطبري)) ليس في (ص).
[10] قوله: ((فيها)) ليس في (ص).
[11] في (ص): ((بمعنى)).
[12] في (ص): ((أن تصلى الجنائز)).