شرح الجامع الصحيح لابن بطال

وقول الله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس}

          ░1▒ بَابُ قولِ الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(1)}الآية[المائدة:90]
          فيه: ابْنُ عُمَرَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ في الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا في الآخِرَةِ). [خ¦5575]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبيَّ صلعم أُتِي لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا ثُمَّ أَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، وَلَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ. [خ¦5576]
          وفيه: أَنَسٌ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَتكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لخمسينَ(2) امْرَأَةً قَيِّمُهُنَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ). [خ¦5577]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ(3)، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسرِقُ(4) وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا(5) يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ) الحديث. [خ¦5578]
          قال المُهَلَّب: تحريم الخمر في الكتاب والسُّنَّة والإجماع، أمَّا الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ(6)} الآيتين[المائدة:90]، ويبيِّن الله ╡ فيها علَّة تحريم الخمر بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ(7)}[المائدة:91].
          قال ابن القصَّار وغيره: وهاتان الآيتان تتضمَّن دلائل كثيرة على تحريمها(8): فمنها: قوله تعالى: {رِجْسٌ} يعني نجسًا، ثمَّ قال في موضع آخر: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}[الأنعام:145]فبان في هذه الآية أنَّ الرِّجس المأمور باجتنابه في الآية الأخرى حرام بنصِّ الله تعالى على ذلك. والثَّاني: قوله {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}[القصص:15]. والثَّالث: / قوله {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:90]أي: كونوا جانبًا منه، وهذا أمر كقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}[الحج:30]{وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:36]وضدُّ الفلاح الفساد، ثمَّ قال تعالى: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}[المائدة:91]. وهذه اللَّفظة يقال: إنَّها أبلغ لفظ للعرب في النَّكير والمنع، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ}[الأعراف:33]والمراد بالإثم الخمر، قال الشاعر:
شَرِبتُ الإثمَ حَتَّى ضَلَّ(9) عَقْلِـي                     كذاكَ(10) الإثـمُّ يذهبُ بالعقُـولِ
          وقال ╡: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}[البقرة:219]فلمَّا جعل الغلبة للإثم عُلِم أنَّ ذلك محرَّم.
          قال المُهَلَّب: وهذه الأحاديث التي ذكرها البخاريُّ في هذا الباب تدلُّ على التَّحريم لشدَّة الوعيد فيها، وهى قوله: (مَنْ شرَِبَ الخَمرَ ثمَّ لم يَتُبْ منِها حُرِمَها في الآخِرَةِ) ومعنى هذا عند أهل السُّنَّة إن أنفذ الله عليه الوعيد.
          وقوله في حديث أبي هريرة: (لَو أخذْتَ الخَمرَ غوَتْ أمَّتُكَ) دليل على تحريم الخمر لأنَّ الغيَّ محرَّم، و في هذا دليل على أنَّ الأقدار عند الله بشروط، متَّى وقعت الشُّروط وقعت الأقدار، ومتى لم تقع الشروط لم يوقع الله تلك الأقدار على ما سبق من هدايته لعبده(11) إلى تلك الشُّروط أو لغيرها من الأفعال(12) التي أراد أن ينفذها(13) عليه من هدًى أو ضلال.
          وقوله في حديث أنس: (إنَّ مِنْ أَشْراطِ السَّاعَةِ أنْ يَظهَرَ الزِّنَا، ويُشرَبَ الخَمرُ) فقرن بينهما في الرُّتبة فكذلك(14) هما في التَّحريم، وأمَّا قوله ◙: (لا يَزنِي وهوَ مؤمِنٌ ولا يشرَبُ الخمرَ وهوَ مؤمِنٌ) فهذا من أشدِّ ما جاء في شارب الخمر، وقد تعلَّق بظاهر(15) هذا الحديث الخوارج فكفَّروا المؤمنين بالذُّنوب. والذي عليه أهل السُّنَّة وعلماء الأمَّة أنَّ قوله: (مؤمِنٌ) يعني مستكمل الإيمان؛ لأنَّ شارب الخمر والزَّاني أنقص حالًا ممَّن لم يأت شيئًا من ذلك لا محالة، لا أنَّه كافر بذلك، وسأستقصي مذاهب العلماء في تأويل هذا الحديث في أوَّل كتاب الحدود إن شاء الله تعالى [خ¦6772] وإنَّما أدخل البخاريُّ هذه الأحاديث في هذا الباب _والله أعلم_ بالوعيد والتَّشديد في الخمر؛ ليكون عوضًا من حديث ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((كُلُّ مُسْكِرٍ حرامٌ)) ولم يخرجه في كتابه لأنَّه يروى(16) موقوفًا فلذلك تركه.
          قال الطَّبريُّ: وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ(17)}الآية[المائدة:91]، الدَّلالةُ على تحريم الله تعالى على عباد المؤمنين أن يعادي بعضهم بعضًا، والأمر منه لهم بالألفة والتَّواخي والتَّواصل، ودلَّت الآية على أنَّ تحريم الخمر(18) كان من أجل إيجابه إثارة العداوة والبغضاء، ومعلوم أنَّ الله تعالى إذا كان إنَّما حرَّمه من أجل إيجابه العداوة والبغضاء(19) بين عباده، أنَّ المعنى الذي حرَّم ذلك من أجله أوكد في التَّحريم، وأبعد من التَّحليل منه(20)، فالعداوة والبغضاء إذًا بين المؤمنين أشدُّ وأعظم عند الله، بدلالة هذه الآية، وكذلك التَّفريط في الصَّلاة وتضييع وقتها أعظم عند الله من شرب الخمر والقمار(21).
          وفيه دليل أنَّ عداوة المؤمن للمؤمن عَدْلُ تضييع وقت الصَّلاة والتَّفريط فيها وفي ذكر الله، لأنَّ الله تعالى جمع بين جميع ذلك في تحريمه السَّبب الذي يوجب لأجله ذلك، فحرَّم الله الخمر والميسر لمصلحة خلقه.


[1] قوله: ((وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) ليس في (ص).
[2] في (ز): ((لخمسون)) والمثبت من (ص).
[3] قوله: ((وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) ليس في (ص).
[4] قوله: ((السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ)) زيادة من (ص).
[5] قوله: ((ولا)) ليس في (ص).
[6] قوله: ((وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ))ليس في (ص).
[7] قوله: ((وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((تحريمهما)).
[9] في (ص): ((زال)).
[10] في (ز): ((كذلك)) والمثبت من (ص).
[11] في (ص): ((لغيره)).
[12] في (ص): ((الأقدار)).
[13] في (ص): ((يعقدها)).
[14] في (ص): ((كذلك)).
[15] زاد في (ص): ((من)).
[16] في (ص): ((روي)).
[17] قوله: ((أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)) ليس في (ص).
[18] زاد في (ص): ((إنما)).
[19] قوله: ((ومعلوم أن الله تعالى إذا كان إنما حرمه من أجل إيجابه العداوة والبغضاء)) ليس في (ص).
[20] قوله: ((منه)) ليس في (ص).
[21] في (ص): ((هذه الآية من شرب الخمر والقمار، وكذلك التفريط في الصلاة وتضييع وقتها أعظم عند الله)).