شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب

          ░5▒ بابُ: مَا جَاءَ في أَنَّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنَ الشَّرَابِ
          فيه: ابْنُ عُمَرَ، خَطَبَ عُمَرُ على مِنْبَرِ النَّبيِّ ◙ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وهِيَ(1) مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ... الحديث. [خ¦5588]
          قال المُهَلَّب: قوله: (نَزَلَ تَحرِيمُ الخَمرِ وهِيَ مِنْ خَمْسَةِ(2)) ففسَّر ما نزل، وهذا يجري مجرى المسندات، وإذا لم يجد مخالفًا(3) له في الصَّحابة وجب أن يكون هذا التَّفسير لكتاب الله(4) ولما حرِّم فيه مجمعًا عليه في الصَّحابة فيرتفع(5) الإشكال عمَّن تلبَّس عليه أمره إن أراد الله هدايته، ومن الدَّليل القاطع لهم إجماعنا وهم(6) على تحريم قليل الخمر من العنب(7)، ولا يخلو تحريمها أن يكون لمعنى أو لغير معنى، فإن قيل: إنَّه لغير معنى، فمعاذ الله أن يأمر بشيء عبثًا، وإذا كان ذلك لمعنى، فلا معنى لقليل الخمر من العنب إلَّا وهو موجود في قليل الخمر من غيرها، فإذا صحَّت العلَّة فيهما جميعًا وجب أن يكون حكمهما واحدًا، إن كان إلى المعقول و الإنصاف سبيل.
          ووجه العلَّة التي حرِّم بها قليل الخمر من العنب وغيرها: أنَّ كلَّ نقطة من الخمر تأخذ(8) بنصيب من إسكار العقل؛ / لأنَّ من شرب عشرة كؤوس فلم يسكر، وشرب كأسًا واحدًا بعدها فسكر منه، لم يجز أن يقال: إنَّ ذلك الكأس وحده أسكره؛ لأنَّه قد شرب قبله تسعًا فلم يسكر، فوجب بهذا النَّظر أنَّ لكلِّ كأس جزءًا من السُّكر.
          ومثال ذلك لو أنَّ سفينة رُمي فيها عشرة أقفزة فلم تغرق، فرمى فيها قفيز زائد فغرقت، لم يكن غرقها بالقفيز ولا بثقله وحده، بل إنَّما كان غرقها بالجميع؛ لأنَّ القفيز الواحد قد رمي فيها أوَّلًا فلم تغرق به، وليس بين العقول وبين هذا حجاب.
          قال ابن القصَّار: وإنَّما احتاط الله تعالى على عباده بأن يمتنعوا(9) من قليل الخمر وإن لم يسكر؛ لأنَّ ذلك داعية إلى كثيرها، ومثل هذا في العبادات كثير. منه أنَّ البيع يوم الجمعة وقت النِّداء منهيٌّ عنه خشية فوت الجمعة، فاحتيط عليهم بأن منعوا البيع(10). و منه سائق(11) الهدي تطوُّعًا إذا عطب قبل محلِّه أمر ألَّا يأكل منه، ولا يطعم أحدًا خيفة أن يتطرَّق إلى نحره ويدَّعي عطبه. ومنه الخاطب في العدَّة منع من التَّصريح لما يدعو إليه التَّصريح من دواعي الشَّهوة.
          فكذلك كلُّ ما وقع عليه اسم خمر فحكمه واحد في التَّحريم، مع أنَّ القدر الذي يحدث عنه السُّكر غير معلوم، فلا يجوز أن يتعلَّق به التَّحريم؛ لاختلاف طباع النَّاس، فربَّما أسكر القليل منه بعض النَّاس، ومنهم من لا يسكره إلَّا الكثير، فحسم الله المادَّة بتحريم قليله وكثيره خيفة مواقعة السُّكر.
          وقد ألزم الشَّافعيُّ الكوفيِّين إلزامًا صحيحًا فقال: ما تقولون فيمن شرب القدر الذي لا يسكر(12)؟ قالوا: مباح، قال لهم: فإن(13) خرج فهبت عليه الرِّيح فسكر ممَّا شربه؟ فقالوا(14): حرام، فقال: هل رأيتم شيئًا يدخل الجوف وهو حلال ثمَّ يصير محرَّمًا؟!
          قال إسماعيل بن إسحاق: وقوله: (والخَمرُ(15) مَا خامَرَ العَقلَ) فهو أن يصير على القلب من ذلك شيء يغطيه، ومن ذلك سمِّي الِخمَار؛ لأنَّه يغطِّي الرَّأس، ويقال للشَّجر الملتفِّ الذي يغطِّي مَن تحته: الخمَر.
          قال ابن المنذر: واختلف العلماء في حدِّ السُّكر الذي(16) يلزم صاحبه اسم السُّكر، فقال مالك: إذا تغيَّر عن(17) طباعه الذي هو عليه(18)، وهو قول أبي ثور. وقال الثَّوريُّ: لا يجلد إلَّا في اختلاط العقل، وهو أن يُستقرأ، فإن أقام القراءة وسئل فتكلَّم بما يعرف لم يحدَّ، وإن لم يقم ذلك حُدَّ. وقال أبو حنيفة: هو ألَّا يَعرِفَ الرَّجُلَ من المرأة. وقال مرَّة: ألَّا يعرف قليلًا ولا كثيرًا. وقال أبو يوسف: لا يكون هذا، ولا يُحدُّ سكران إلَّا وهو يعرف شيئًا، فإذا كان الغالب عليه اختلاط العقل واستقرئ سورة فلم يفهمها وجب عليه الحدُّ. وقال الشَّافعيُّ: أقلُّ السُّكر أن يغلب على عقله في بعض ما لم يكن عليه قبل الشُّرب(19). قال ابن المنذر: وهذا أولى بالصَّواب؛ لقوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّيَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}[النساء:43]وقد كان الذين خوطبوا بهذه الآية قبل نزول تحريم الخمر يقربون الصَّلاة قاصدين لها في حال سكرهم، عالمين بالصَّلاة التي يقصدون لها(20)، وسَمُّوا سكارى؛ لأنَّ في الحديث أنَّ أحدهم أمَّهم فخلَّط في القراءة؛ فأنزل الله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}[النساء:43]فقصدهم إلى الصَّلاة دلالة أنَّ اسم السَّكران قد يستحقُّ من عرف شيئًا وذهب عليه غيره، ولو كان السَّكران لا يكون إلَّا من لا يعرف شيئًا ما اهتدى سكران لمنزله أبدًا، إذ معروف أنَّ السَّكران يأتي منزله، ويقال: جاءنا وهو سكران.


[1] في (ص): ((وإنه)).
[2] زاد في (ص): ((أشياء)).
[3] في (ص): ((مخالفه)).
[4] في (ص): ((بكتاب)).
[5] في (ص): ((ويرتفع)).
[6] في (ص): ((وإياهم)).
[7] في (ز) ((العسل)) والمثبت من (ص).
[8] في (ص): ((تأكل)).
[9] في (ص): ((يمنعوا)).
[10] زاد في (ص): ((فيه)).
[11] في (ص): ((وسائق)).
[12] في (ص): ((يسكره)).
[13] في (ص): ((إن)).
[14] في (ص): ((قالوا)).
[15] في (ص): ((الخمر)).
[16] في (ص): ((والذي)).
[17] في (ص): ((من)).
[18] في (ص): ((التي هو عليها)).
[19] في (ص): ((السكر)).
[20] في (ص): ((لها يقصدون)).