شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: الخمر من العسل وهو البتع

          ░4▒ بَابٌ: الْخَمْرُ مِنَ الْعَسَلِ وَهُوَ الْبِتْعُ.
          وَقَالَ مَعْنٌ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنِ الْفُقَّاعِ، فَقَالَ: إِذَا لَمْ يُسْكِرْ فَلا بَأْسَ بهِ.
          وَقَالَ(1) ابْنُ الدَّرَاوَرْدِيِّ: سَأَلْنَا عَنْهُ، فَقَال: ما لا يُسْكِرُ فلا(2) بَأْسَ بِهِ.
          فيه(3) عَائِشَةُ: (أنَّ النَّبيَّ صلعم سُئِلَ عَنِ الْبِتْعِ، وَهُوَ نَبِيذ الْعَسَل، وَكَانَ أَهْل الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ(4) فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ(5) أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ). [خ¦5585]
          وفيه: أَنَسٌ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لا تَنْتَبِذُوا في الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ). وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ مَعَها(6) الْحَنْتَمَ وَالنَّقِيرَ. [خ¦5586] [خ¦5587]
          هذا الباب حجَّة لقول مالك وأهل الحجاز أنَّ المسكر كلَّه من أيِّ نوع كان من غير العنب فهو الخمر المحرَّمة في القرآن والسُّنَّة.
          قال إسماعيل بن إسحاق: ألا ترى أنَّه ◙ سئل عن البتع فقال: (كُلُّ شَرابٍ أَسكَرَ(7) حَرَامٌ). فعلمنا أنَّ المسألة إنَّما وقعت على ذلك الجنس من الشَّراب، ودخل فيه كلُّ ما كان في معناه ممَّا يسمَّى شرابًا مسكرًا، من أيِّ نوع كان، فإن قال أهل الكوفة: إنَّ قوله ◙: (كلُّ شرابٍ أَسكَرَ) يعني به الجزء الذي يحدث بعقبه السُّكر فهو حرام. قال ابن القصَّار:(8) فالجواب أنَّ الشَّراب اسم جنس، فيقتضي أن يرجع التَّحريم إلى الجنس، وهذا كما تقول: هذا الطَّعام مشبع، وهذا الماء(9) مروٍ، يريد به الجنس، وكلُّ جزء منه يفعل ذلك الفعل، فاللُّقمة تشبع العصفور، وما هو أكبر منها يشبع ما هو أكبر من العصفور، و على هذا حتَّى يشبع الكبير، وكذلك جنس الماء يروي الحيوان على هذا الحدِّ، فكذلك النَّبيذ.
          وقال(10) الطَّبريُّ: يقال لهم: أخبرونا عن الشُّربة التي كان يعقبها السُّكر، أهي التي أسكرت شاربها دون ما تقدَّمها من الشُّربات(11) أو أسكرت باجتماعها مع ما تقدَّمها، وأخذت كلُّ شربة بحظِّها من الإسكار؟. فإن قالوا: إنَّما حدث له السُّكر بالشُّربة الآخرة، التي وُجد تخبُّل(12) العقل بعقبها. قيل لهم: وهل هذه التي حدث له ذلك عند شربها إلَّا كبعض ما تقدَّم من الشُّربات قبلها، حتَّى أنَّها لو انفردت دون ما تقدَّم(13) قبلها كانت غير مسكرة وحدها، وإنَّها إنَّما أسكرت باجتماعها واجتماع غيرها(14) فحدث عن جميعها السُّكر والخبل؟!
          وممَّا يبيِّن صحَّة ذلك لو أنَّ رطلًا من ماء(15) ألقيت(16) قطرة من خلٍّ(17) فلم يتغيَّر طعمه إلى الحموضة، ثمَّ تابعنا ذلك بقطرات كثيرة كلَّ ذلك لا يتغيَّر لها(18) طعم الماء، ثمَّ ألقينا آخر ذلك قطرة منه فتغيَّر طعمه وحَمُضَ أترونه حمض من القطرة الآخرة(19) أم حمض منها ومن سائر القطرات قبلها؟
          فإن قالوا: حمض من القطرة الآخرة(20) قالوا: ما تعلم العقلاء خلافه، فكابروا العقول؛ لأنَّ أمثالها قد ألقيت فيه ولم يحدث ذلك فيه، فكان معلومًا بذلك أنَّ الحموضة حدثت عن جميع ما ألقي من الخلِّ، وأنَّه لولا قوَّة عمل ما تقدَّم من قطرات الخلِّ المتقدِّمة مع عمل القطرة الآخرة فيه لم يحدث ذلك فيه.
          فإن قالوا: حمض باجتماع قوَّة عمل جميع ما ألقي فيه من أجزاء الخلِّ، ولكنَّه ظهرت الحموضة عند آخر جزء من الخلِّ الذي ألقي فيه. قيل لهم: فهلَّا قلتم كذلك في الشَّراب الذي أسكر كثيره أنَّه إنَّما أسكر باجتماع قوَّة عمل جميع ما شرب منه، ولكن السُّكر والخبل إنَّما ظهر فيه عند اجتماع قوَّة عمل أوَّل الشُّربة(21) مع سائرها، كما قلتم في الماء الذي ظهرت فيه حموضة الخلِّ، فتعلموا(22) بذلك أنَّ كلَّ شراب أسكر كثيره مستحقٌّ بذلك قليله اسم مسكر، وكذلك الزَّعفران المغيِّر للماء، والكافور المغيِّر ريحه في أنَّ قليل ذلك مستحقٌّ(23) من الاسم والصِّفة فيما عمل فيه من التَّغير مثل الذي هو مستحقُّ كثيره.
          قال المُهَلَّب: وإنَّما دخل الوهم على الكوفيِّين من حديث رووه عن ابن عباس: حرِّمَت الخمرُ بِعَينِها و السُّكرُ(24) مِن غَيرِها، هكذا رواه أبو نعيم عن مِسْعَر، وإنَّما الحديث: والمسكرُ مِنْ غيرِها، كذلك(25) رواه شعبة وسفيان عن مِسْعَر عن أبي عون / الثَّقفيِّ، عن عبد الله بن شَدَّاد عن ابن عبَّاس ورواه(26) ابن شُبْرُمَة عن ابن شدَّاد: السُّكرُ، بغير ميم أيضًا على الوهم.
          قال الأصيليُّ: وشعبة وسفيان أضبط ممَّن أسقط الميم، على أنَّ هذا(27) الحديث لم يسمعه عبد الله بن شَدَّاد من(28) ابن عبَّاس، قاله أحمد بن حنبل، وقد بيَّنه هشيم فقال: عن الثِّقة عن ابن عبَّاس وقال مرَّة أخرى: عمَّن حدَّثه عن ابن عبَّاس(29) فهذا كلُّه يدلُّ على الوهم، وقال النَّسائيُّ: لم يسمعه ابن شُبْرُمَة من(30) ابن شدَّاد، وسأزيد في بيان هذه المسألة في باب الباذق ومن نهى عن كلِّ مسكر من الأشربة بعد هذا، إن شاء الله.
          فإن قيل: فإنَّ حديث نافع عن ابن عمر عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: (كُلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكُلُّ مُسكِرٍ حرامٌ) أوقفه مالك وغيره عن نافع عن ابن عمر، فهم أقعد وأولى ممَّن أسنده عن نافع، قال الطَّبريُّ: وقد روى: (كلُّ مسكرٍ حرامٌ) عن النَّبيِّ صلعم جماعة، منهم أبو موسى الأشعريُّ وأبو هريرة وابن عبَّاس والنُّعمان بن بشير وبريدة الأسلميُّ ووائل بن حجر وعبد الله بن مُغَفَّل وعبد الله بن عَمْرو وأبو سعيد الخدريُّ ومعاوية وأمُّ سلمة وعائشة وابن مسعود، ذكرها الطَّبريُّ كلَّها(31) في «تهذيب الآثار».
          قال(32) غيره: فإن احتجَّ العراقيُّون فقالوا: الدَّليل على صحَّة قولنا في التَّفريق بين عصير العنب وبين سائر الأنبذة(33) أنَّ الأمَّة كفَّرت مستحلَّ عصير العنب، ولم تكفِّر مستحلَّ نقيع(34) التَّمر، فاعتلالهم بالتَّكفير ليس بشيء، لأنَّ التَّكفير إنَّما يقع فيما ثبت(35) بالإجماع، لا فيما ثبت من جهة أخبار الآحاد، ألا ترى أنَّه لا يكفر القائل بأنَّ الصَّلاة تجوز بغير أمِّ القرآن، ولا يكفر من أجاز النِّكاح بغير وليٍّ، ولا من قال الوضوء جائز بغير نيَّة، ومثله كثير لا يكفر القائل به، ويعتقد فيه التَّحريم والتَّحليل(36)، ألا ترى أنَّه لا يكفر من قال لا يقطع سارق رُبْعِ دينار مع ثبوت ذلك عن النَّبيِّ(37) صلعم من أخبار الآحاد، ولا يمتنع أحد من العلماء أن يحرم ما قام له الدَّليل على تحريمه من كتاب الله أو سنَّة رسوله، وإن كان غيره يخالفه فيه لدليل استدلَّ به ووجه من العلم أدَّاه إليه، وليس في شيء من هذا خروج من الدِّين ولا يكفر بما فيه الخطأ والصَّواب.
          فإن قال قائل: فما معنى حديث أنس في هذا الباب، وإنَّما فيه النَّهي عن الانتباذ؟ قال المُهَلَّب: هو موافق للتَّبويب، وذلك أنَّ الخمر من العسل لا يكون إلَّا منتبذًا في الأواني بالماء الأيَّامَ حتَّى يصير خمرًا، وأنَّ الرَّسول إنَّما نهى عن الانتباذ في الظُّروف المذكورة لسرعة كون ما ينبذ فيها خمرًا من كلِّ ما ينتبذ فيها.


[1] في (ص): ((قال)).
[2] في (ص): ((فقالوا لا يسكر فلا)).
[3] في (ص): ((وفيه)).
[4] في (ص): ((يشربوا به)).
[5] في (ز): ((مسكر)) والمثبت من (ص).
[6] في (ص): ((معهما)).
[7] زاد في (ص): ((فهو)).
[8] قوله: ((قال ابن القصار)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((والماء)).
[10] في (ص): ((قال)).
[11] في (ص): ((الشربات)).
[12] في (ص): ((خبل)).
[13] قوله: ((من الشربات قبلها، حتى أنها لو انفردت دون ما تقدم)) زيادة من (ص).
[14] صورتها في (ز): ((عملها)).
[15] زاد في (ص): ((العنب)).
[16] زاد في (ص): ((فيه)).
[17] في (ص): ((خمر)).
[18] في (ص): ((له)).
[19] زاد في (ز): ((قالوا)).
[20] قوله: ((أم حمض منها ومن سائر القطرات قبلها؟ فإن قالوا: حمض من القطرة الآخرة)) ليس في (ص).
[21] في (ص): ((قوة عمل أو الشربة)).
[22] في (ص): ((فعلموا)).
[23] قوله: ((مستحق بذلك قليله اسم... قليل ذلك مستحق)) زيادة من (ص).
[24] في (ص): ((والمسكر)).
[25] في (ص): ((وكذلك)).
[26] في (ص): ((رواه)).
[27] قوله: ((هذا)) ليس في (ص).
[28] في (ص): ((عن)).
[29] قوله: ((وقال مرة أخرى: عمن حدثه عن ابن عباس)) ليس في (ص).
[30] في (ص): ((عن)).
[31] في (ص): ((ذكر هؤلاء الطبري)).
[32] في (ص): ((وقال)).
[33] في (ص): ((الأشربة)).
[34] في (ص): ((عصير)).
[35] في (ص): ((يثبت)).
[36] في (ص): ((التحليل والتحريم)).
[37] في (ص): ((الرسول)).