عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر
  
              

          ░56▒ (ص) بَابٌ الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ مِثْلُ الصَّائِمِ الصَّابِرِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ يقال فيه: (الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ) وهو مرفوعٌ بالابتداء، وقوله: (مِثْلُ الصَّائِمِ الصَّابِرِ) خبره أي: الشاكر الذي يأكل ويشكر اللهَ ثوابُه مثلُ ثواب الذي يصوم ويصبر على الجوع.
          قيل: الشكر نتيجة النعماء والصبر نتيجة البلاء، فكيف يشبَّه الشاكر بالصابر؟
          أجيب: بأنَّ التشبيه في أصل الاستحقاق لا في الكميَّة ولا في الكيفيَّة، ولا تلزم المماثلة في جميع الوجوه، وقال الطِّيبيُّ: وَرَد الإيمان نصفان؛ نصفٌ صبرٌ ونصفٌ شكرٌ، وربَّما يتوهَّم متوهِّم أنَّ ثواب الشكر يقصر عن ثواب الصبر، فأُزِيل توهُّمه به؛ يعني: هما متساويان في الثواب، أو وجه الشبه: حبس النفس؛ إذ الشاكر يحبس نفسه على محبَّة المُنعِم بالقلب والإظهار باللِّسان، وقال أهل اللُّغة: رجلٌ طاعمٌ: حسن الحال في المطعَم، ومِطعامٌ: كثير القِرى، ومطعم: كثير الأكل، وقال ابن العربيِّ: سوَّى بين درجتي الطاعة مِنَ الغني والفقير في الأجر.
          (ص) فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ عَنِ النَّبِيِّ صلعم / .
          (ش) أي: روي في هذا الباب عن أبي هُرَيْرَة عن النَّبِيِّ صلعم ، ولم يذكر ابن بَطَّالٍ هذه الزيادة في «شرحه» بل وصل الباب بالباب الآتي بعده، وابن حِبَّانٍ قد خرَّج هذا في «صحيحه» فقال: حَدَّثَنَا بَكْر بن أحمد العابد: حَدَّثَنَا نصر بن عليٍّ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِر بن سليمان عن معمرٍ، عن سعيد المقبريِّ، عن أبي هُرَيْرَة قال: قال رسول الله صلعم : «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر»، وأخرجه الحاكم بلفظ: «مثل الصائم الصابر» نحو الترجمة المذكورة، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه، وأخرجه ابن ماجه مِن حديث الدراورديِّ عن مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي حرَّة عن حكيم بن أبي حرَّة عن سنان بن سَنَّة الأسلميِّ: أنَّ رسول الله صلعم قال: «الطاعم الشاكر له مثل أجر الصائم».
          قُلْت: (سِنان) بكسر السين المُهْمَلة وتخفيف النون (ابن سَنَّة) بفتح السين المُهْمَلة والنون المشدَّدة، له صحبةٌ وروايةٌ، وقال ابن حِبَّان: معنى الحديث: أن يطعم ثُمَّ لا يعصي بارئه بقوَّته، ويتمَّ شكره بإتيان طاعته بجوارحه؛ لأنَّ الصائم قرن به الصبر، وهو صبره عن المحظورات، وقرن بالطاعم الشكر، فيجب أن يكون هذا الشكر الذي يقوم بإزاء ذلك الصبر أن يقاربه ويشاركه، وهو ترك المحظورات.
          فَإِنْ قِيلَ: هل يسمَّى الحامدُ شاكرًا؟
          قيل: نعم؛ لِما روى مَعمَرٌ عن قتادة عن ابن عمر ☻: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: «الحمدُ رأسُ الشكر، ما شكرَ اللهَ عبدٌ لا يحمده»، وقال الحسن: ما أنعَمَ الله على عبدٍ نعمةً فحمِدَ الله عليها إلَّا كان حمدُه أعظَمَ منها، كائنةً ما كانت، وقال النَّخَعِيُّ: شكرُ الطعام أن تُسمِّيَ إذا أكلتَ، وتحمَدَ إذا فرغتَ، وفي «عِلَل ابن أبي حاتمٍ»: قال عليُّ بن أبي طالبٍ ☺ : شكرُ الطعام أن تقولوا: الحمدُ لله.