نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى

          ░41▒ (بابُ) بالإضافة إلى كلمة (مَا جَاءَ) في الحديث من (أَنَّ) بفتح الهمزة بتقدير «من» البيانية (الأَعْمَالَ) وفي رواية: <العمل> (بِالنِّيَّةِ) أي: كاملة مثاب عليها بها على ما ذهب إليه الحنفية، أو معتبرة وصحيحة بها على ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة، وقد مر تفصيلاً في أول الكتاب [خ¦1]، وسيأتي نوع تفصيل في حديث الباب.
          (وَالْحِسْبَةِ) بكسر الحاء وسكون السين المهملتين، اسم من الاحتساب وهو الإخلاص والجمع حسبٌ، ويقال: احتسبت بكذا أجراً عند الله تعالى؛ أي: اعتددته ناوياً به وجه الله تعالى، ومنه قوله صلعم : ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [خ¦38]. وفي حديث عمر ☺: ((احتسبوا أعمالكم فإن من احتسب عمله كتب له أجر عمله وأجر حسبته)).
          وقال الجوهري: (يقال: احتسبت بكذا أجراً عند الله تعالى، والاسم الحِسبة _بالكسر_ وهي الأجر، وقيل: المراد بالحِسبة: طلب الثواب)، وقال محمود العيني: (لم يقل أحد من أهل اللغة أن الحِسبة طلب الثواب، نعم فسره الجوهري بالأجر وهو الثواب على أنه لا يُفسَّر به في كل موضع)، ألا ترى إلى حديث عمر ☺ فإن فيه ((وأجر حسبته)) وإلا لكان معناه: وأجر أجره، ولا معنى له، وإنما المعنى هنا له أجر عمله، وأجر احتسابه عمله وهو إخلاصه فيه، أو المعنى: (من اعتد عمله ناوياً به وجه الله تعالى كتب له أجر عمله وأجر نيته)، فافهم.
          (وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)؛ اعلم أن هذا القول من حديث عمر ☺، وقوله: ((والحِسبة)) ليس من لفظ الحديث أصلاً لا من هذا الحديث ولا من غيره، وإنما أخذ من لفظ «يحتسبها» في حديث أبي مسعود ☺ الذي ذكره في هذا الباب [خ¦55]، وكأن الظاهر أن يقول: باب ما جاء أن الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى والحِسبة، لكن لما كان لفظ الحسبة من الاحتساب وهو الإخلاص كان ذِكره عَقيب النية أمسَّ من ذكره عَقيب قوله: ((ولكل امرئ ما نوى)) لأن النية إنما تعتبر إذا كانت خالصة على أنه عقد هذا الباب على ثلاثة تراجم:
          الأولى: هي أن الأعمال بالنية، واستدل عليه بحديث عمر ☺ [خ¦1].
          والثانية: هي أن الأعمال بالحسبة، واستدل عليه بحديث أبي مسعود ☺ [خ¦55].
          والثالثة: هي قوله: ((ولكل امرئ ما نوى)) واستدل عليه بحديث سعد بن أبي وقاص ☺؛ / أي: بمعناه، وإن كان حديث عمر ☺ يدل عليه أيضاً صريحاً إذ فرَّق بين مصاحبة الشيء وملاحظته.
          ثم وجه المناسبة بين البابين أن المذكور في الباب السابق هو الأعمال التي يدخل بها العبد الجنة، ولا يعتبر العمل إلا بالنية والإخلاص، فلذلك ذكر هذا الباب عقيب ذلك الباب، والمقصود من هذا الباب هو الرد على المرجئة القائلين: بأن الإيمان هو الإقرار باللسان دون اعتقاد القلب.
          (فَدَخَلَ) هذا قول البخاري لا من تتمة ما جاء، وقد صرح به في رواية ابن عساكر فقال: <قال أبو عبد الله> أي: البخاري فدخل...إلى آخره، والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إذا كان الأعمال بالنية _على أن تكون الألف واللام للاستغراق_ فدخل.
          (فِيهِ) أي: في الكلام المتقدم (الإِيمَانُ) أي: على ما ذهب إليه المؤلف ☼ من أن الإيمان عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب من معرفة الله تعالى، وخشيته، ومحبته؛ لأن النية تميز العمل لله عن العمل لغيره رياء، وتميز مراتب الأعمال كالفرض عن الندب، وتميز العبادة عن العادة كالصوم عن الحمية.
          (وَ) كذا دخل فيه (الْوُضُوءُ) على مذهبه، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وعامة أصحاب الحديث، وعند إمامنا الأعظم، وسفيان الثوري، والأوزاعي وغيرهم لا يدخل فيه؛ لأن الوضوء ليس عبادة مستقلة، وإنما هي وسيلة إلى الصلاة والنقض بالتيمم بأنه وسيلة أيضاً.
          وقد اشترط الحنفية فيه النية مدفوع بأنه طهارة ضعيفة؛ لأنه لا يصح إلا عند العجز عن الماء فيحتاج إلى تقويتها بالنية، وبأن الماء خُلق مطهِّراً، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان:48] بخلاف التراب فكان التطهر به تعبداً محضاً فاحتاج إلى نية على أن التيمم ينبئ لغة على القصد فلا يتحقق بدونه بخلاف الوضوء، فإن قيل: في الوضوء مسح، والمسح لم يُعقل مطهراً كالغسل فيحتاج إلى النية؛ لأنه تعبد محض، أجيب: بأن مسح الرأس ملحق بالغسل؛ لقيامه مقامه، وانتقاله إليه بضرب من الحرج.
          (وَ) كذا دخل فيه (الصَّلاَةُ)؛ ولا خلاف أنها لا تجوز إلا بالنية، ولا يفصل بينها وبين التحريمة بعمل، ولا معتبر بالنية المتأخرة عنها خلافاً للكرخي فإنه يُجوِّز الصلاة بنية متأخرة عن التحريمة، واختلفوا على قوله، فقيل: إلى انتهاء الثناء، وقيل: إلى التعوذ، وقيل: إلى الركوع، وقيل: إلى أن يرفع رأسه من الركوع، وأما الذكر باللسان فلا معتبر به في جواز الصلاة، لكنه حسن؛ لاجتماع عزيمته، وسائر أبحاثها مستوفى في الفروع.
          (وَ) كذا دخل فيه (الزَّكَاةُ)؛ وفيه تفصيل: وهو أن صاحب / النصاب الحولي إذا دفع زكاته إلى مستحقها لا يجوز له ذلك إلا بنية مقارنة للأداء، أو عند عزل ما وجب منها؛ تيسيراً له، وأما إذا كان له دين على فقير فأبرأه عنه سقط زكاته عنه نوى به الزكاة أوْ لا، ولو ذهب دَينه على فقير ونوى عن زكاة دَين آخر على رجل آخر، أو نوى عن زكاة عين له لا يصح، ولو غلب الخوارج على بلدة فأخذوا الزكاة سقطت عن أرباب الأموال بخلاف العشر فإن للإمام أن يأخذه ثانياً؛ لأن التقصير هنا من جهة صاحب المال حيث مر بهم، وهناك التقصير من الإمام حيث قصَّر فيهم، وقالت الشافعية: السلطان إذا أخذ الزكاة فإنها تسقط ولو لم ينو صاحب المال؛ لأن السلطان قائم مقامه.
          وقال محمود العيني: كان ينبغي على أصلهم أن لا تسقط إلا بالنية منه؛ لأن السلطان قائم مقامه في دفعها للمستحقين لا في النية ولا حرج في اشتراط النية عند أخذ السلطان.
          (وَ) كذا (الْحَجُّ) ولا خلاف في أنه لا يجوز إلا بالنية، فإن قلت: قال الشافعي: إذا نوى الحج عن غيره ينصرف إلى حج نفسه ويجزئه عن فرضه وقد ترك العمل بعموم الحديث، فالجواب: أن الشافعي أخرجه من عموم الحديث بحديث شبرمة الذي رواه أبو داود بالسند المتصل إلى ابن عباس ☻ أن النبي صلعم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة قال: ((من شبرمة؟)) قال: أخ له أو قريب له، قال: ((حججت عن نفسك؟)) قال: لا، قال: ((حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة))، وفي رواية البيهقي: ((فاجعل هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة))، وفي رواية له أيضاً: ((هذه عنك وحج عن شبرمة)) قالوا: فُهِمَ من هذا الحديث أنه لابد من تقديم فرض نفسه، وهو قول ابن عباس، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. واحتجت الحنفية بما رواه البخاري ومسلم ► أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الحج وإنه شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: ((نعم حجي عن أبيك)) من غير استفسار هل حججت أم لا، وهذا أصح من حديث شبرمة.
          (وَ) كذا (الصَّوْمُ)؛ وفيه خلاف، فمذهب عطاء ومجاهد وزُفَر: أن الصحيح المقيم في رمضان لا يحتاج إلى نية؛ لأنه لا يصح في رمضان النفل فلا حاجة إلى التمييز بالنية، / وعند الأئمة الأربعة لابد من النية، غير أن تعيين الرمضانية ليس بشرط عند الحنفية، حتى لو صام رمضان بنية قضاء أو نذر عليه أو تطوع أنه يجزئ عن فرض رمضان، وتقديم الحج على الصوم؛ بناء على ما ورد عنده في حديث: ((بني الإسلام على خمس)) [خ¦8] وقد تقدم.
          (وَ) كذا (الأَحْكَامُ)؛ من المعاملات والمناكحات والجراحات إذ يشترط في كلها القصد، فلو سبق لسانه بغير قصد إلى بعت أو وهبت، أو نكحت، أو طلقت لكان لغواً؛ لانتفاء القصد إليه كأن دعا زوجته بعد طهرها من الحيض إلى فراشه وأراد أن يقول: أنت طاهر فسبق لسانه وقال: أنت الآن طالق هكذا، قالوا وفيه نظر، فانظر إلى ما قاله محمود العيني.
          ثم إنه قد أفاد العلامة الكرماني: أن الصور التي اختلف فيها في أنها تشترط النية فيها أو لا، فمن اشترط النية فيها فلا نقض بها على هذا الحكم العام، ومن لم يشترط خصَّص هذا الحكم العام بهذه الصور بالدلائل الدالة على التخصيص وعليه بيان المخصصات، فافهم.
          (وَقَالَ)؛ أي: <الله تعالى> كما في رواية أو <╡> كما في رواية أخرى ({كُلٌّ}) وفي رواية: < {قُلْ كُلٌّ}> أي: كل أحد ({يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}) أي: (عَلَى نِيَّتِهِ) وهو مروي عن الحسن البصري، ومعاوية بن قُرَّة المزني، وقتادة، وحذف المؤلف منه حرف التفسير.
          وقال الليث: (الشاكلة من الأمور ما وافق فاعله، والمعنى: أن كل أحد يعمل على طريقته التي تشاكل أخلاقه، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإعراض عند النعمة واليأس عند الشدة، والمؤمن يفعل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء، ويدل عليه قوله تعالى: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} [الإسراء:84] أي: أسد مذهباً وطريقة).
          وقال الزجاج: (على شاكلته: على طريقته ومذهبه)، ونقل ذلك عن مجاهد أيضاً، ومن هذا أخذ الزمخشري وقال: (أي على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدي والضلالة)، وهو قريب من تفسير الليث كما لا يخفى.
          ثم إن هذا القول إما جملة حالية بتقدير محذوف وهو أن يقال: كيف لا يدخل الإيمان وإخوانه التي ذكرت في قوله «الأعمال بالنية»، والحال أن الله تعالى قال: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:84] أو معطوف على محذوف تقديره: فدخل الإيمان إلى آخره؛ لأنه ◙ قال: ((الأعمال بالنية)) وقال تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}.
          (نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ)؛ أي: ما ينفقه على زوجه وولده ومن يجب إنفاقه عليه، وفي نسخة بدون الواو وهو مبتدأ (يَحْتَسِبُهَا)؛ أي: حال كونه يريد بها وجه الله تعالى وهو حال متوسطة بين المبتدأ والخبر الذي هو قوله: (صَدَقَةٌ) أي: كالصدقة في كونها مأجوراً عليها ومثاباً بها.
          (وَقَالَ النَّبيُّ صلعم )؛ يوم فتح مكة في حديث ابن عباس ☻ / ((لا هجرة بعد الفتح)) (وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا)؛ وقد أخرجه المؤلف قطعة منه معلقاً، وأخرجه بتمامه مسنداً في «الحج» [خ¦1834]، و«الجهاد» [خ¦2783]، و«الجزية» [خ¦3189].
          والمعنى: أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة شرفها الله تعالى، ولكن حصلوه في جهاد ونية صالحة ففيه الحث على نية الخير مطلقاً، وأنه يثاب على النية.
          وقوله: ((جهاد)) مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: ولكن طلب الخير جهاد ونية، والمقصود من ذكر هذه الأقوال بعد قوله: ((فدخل فيه الإيمان...إلى آخره)) تقويته بما يناسب كلاً من التراجم الثلاثة على الترتيب فقوله: وقال تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} لقوله: ((إن الأعمال بالنية))، وقوله: ((ونفقة الرجل...إلى آخره)) لقوله: ((والحِسبة))، وقوله: وقال النبي صلعم : ((ولكن جهاد ونية)) لقوله: ((ولكل امرئ ما نوى)) ثم استدل على تلك التراجم بالأحاديث فقال: