نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الدين يسر

          ░29▒ (باب) بالإضافة إلى قوله: (الدِّينُ) أي: دين الإسلام (يُسْرٌ) أي: ذو يسرٍ، أو عين اليسر، على سبيل المبالغة، كأنَّ شدَّة اليُسر وكثرته نفس اليُسر، كما يقال: أبو حنيفة فقه؛ لكثرة فقهه، ومنه رجل عدل.
          واليُسر: بضم السين وسكونها، نقيض العسر ومعناه التَّخفيف، ثمَّ كون هذا الدِّين يسراً يجوز أن يكون بالنَّسبة إلى ذاته، ويجوز أن يكون بالنَّسبة إلى سائر الأديان وهو الظَّاهر؛ لأنَّ الله تعالى رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم كعدم جواز الصَّلاة إلَّا في المسجد، وعدم الطَّهارة بالتراب، وقطع الثَّوب الذي تصيبه النَّجاسة، وأنَّ توبتهم كانت بقتل (1) أنفسهم، وتوبة هذه الأمَّة بالإقلاع والعزمِ والنَّدم، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
          قال ابنُ بطال: إنَّ اسم الدِّين واقع هنا على الأعمال؛ لقوله: ((الدِّين يسر))، واليُسر: اللِّين والانقياد، فالذي يوصف باليُسر والشِّدَّة إنَّما هي الأعمال.
          (وَقَوْلُ) بالجر عطفاً على المضاف إليه للباب (النَّبِيِّ صلعم : أَحَبُّ الدِّينِ) كلامٌ إضافي؛ أي: أحبُّ خصال / الدِّين المعهود وهو دين الإسلام وخصال الدِّين كلها محبوبة، ولكن ما كان منها سمحاً سهلاً فهو أحبُّ إلى الله تعالى، ويدل عليه ما رواه أحمد في ((مسنده)) بسند صحيحٍ من حديث أعرابي لم يسمِّه أنه سمع رسول الله صلعم يقول: ((خيرُ دينكُم أيسرَهُ))، ويمكن أن يكون المراد جنس الدِّين؛ أي: أحب الأديان.
          (إِلَى اللَّهِ) والمراد بالأديان الشرايع الماضية قبل أن تُبدَّل وتنسَخ (2)، ويمكن أن يُقصد بأفعل التفضيل: الزيادة المطلقة، فافهم. (الْحَنِيفِيَّةُ) أي: الملة الحنيفيَّة التي هي الملة الإبراهيمية. والحنيف عند العرب: من كان على ملَّة إبراهيم ◙، وسمِّي إبراهيم ◙ حنيفاً؛ لميله عن الباطل، وعبادة الأوثان إلى الحقِّ وأصل الحنف: الميل.
          (السَّمْحَةُ) أي: السَّهلة؛ أي: المبنية على السَّماحة والسُّهولة لا حرج فيها ولا تضييق على الناس؛ لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78].
          وهذا التَّعليق لم يسنده المؤلِّف في هذا الكتاب؛ لأنَّه ليس على شرطه، نعم وصله في كتاب ((الأدب المفرد)) وكذا وصله أحمد بن حنبل وغيره من طريق محمد بن إسحاق، عن داود بن الحُصين، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ . وإسناده حسنٌ، استعمله المؤلف في الترجمة؛ لدَلالة معناه على معنى الترجمة.
          ووجه مناسبة هذا الباب للأبوابِ السَّابقة من حيث أنها تضمَّنت التَّرغيب في القيام والصيام والجهاد، فأرادَ أن يُبَيِّن أن الأَوْلى للعامل بذلك أن لا يجهد نفسه بحيث يعجز، بل يعملُ بتلطُّف وتدريجٍ؛ ليدوم عمله ولا ينقطع، ثمَّ عاد إلى سياق الأحاديث الدَّالة على أنَّ الأعمال الصَّالحة من الإيمان، فقال: باب الصَّلاة من الإيمان، كما سيجيء.


[1] في (خ): ((بفضل)).
[2] في هامش الأصل: وإنما قيَّد بقوله: قبل أن تبدل وتنسخ؛ لئلا يلزم كون الأديان المنسوخة محبوبة إلى الله تعالى. منه.